إن أول انطباع -في سياق آيات القرآن- ارتبط بكينونة الإنسان ووجوده هو الإفساد وسفك الدماء، عندما دفع الملائكة الكرام تساؤلاً عن جدوى وجوده في الأرض، ونزوله من مقام الجنة إلى دنو الأرض، وبُعده عن خالقه الذي سيؤدي إلى اعوجاج أفعاله، (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدسُ لك)، ولكن الله عز وجل بحكمته المطلقة وعلمه الذي سبق كل شيء، أجابهم بأن هذا المخلوق هو خليفة له، يحمل على عاتقيه مسؤولية الخلافة في الأرض لإعمارها والسير في مناكبها والسعي في تطوير سبل العيش فيها، والعمل على تحقيق النفع الأخلاقي والحضاري. ثم إن كل تلك المعاني لخلافة الله -عز وجل- لن تصل غايتها ولن تثمر جهودها ولن تتمخض نتائجها على أرض الواقع إلا بالعلم والمعرفة، كما قال الله لهم (إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها)، التصق معنى العلم التصاقاً وثيقاً بالإنسان (آدم) منذ البداية كما ذكرت الآية. ثم نفى الله -عز وجل- فكرة ارتباط الإنسان بالسفك والإفساد والتدمير، حين سأل الملائكة عن أسماء الأشياء، فلم يستطيعوا إجابته عنها، ولكن المخلوق الذي نُعت بالإفساد والسفك والهدر، كان حاضراً ليجيب عن تلكم الأسماء، وبرز كمخلوق متعلم يتسم بالمعرفة والقدرة على التعلم، وهنا تظهر أهمية العلم في تحقيق معنى وجود الإنسان وقدرته على تحقيق خلافة الله عز وجل في الأرض، وكتكريمٍ على ذلك التفضيل العالي والمكانة الرفيعة، أمرهم بالسجود له. ينظُر الإسلام في رسالته المجيدة وغايته الكريمة إلى أن وجود الإنسان في الكون له سببٌ عظيم وبُعد جليل. (خلافة لله، وارتباطٌ وثيقٌ بالعلم) ولعلنا حين ننظر إلى الأزمنة التي برز فيها المسلمون على العالم، سنجد أن تحقيق العلم والسعي بالاستزادة منه والتعمق فيه ونشره، أسفر عن قيمٍ حضارية عليا، واقتراب كبير للعدل، وازدهار مبهر في العلم، وتحقيقٍ صحيح للوجود. بينما تنظر أديانٌ أخرى كالنصرانية إلى أن وجود الإنسان في الأرض ما هو إلا عقوبةٌ تسبب بها آدم عليه السلام، وجنى على نفسه وبنيه من البشر وتسبب في عنائهم وشقائهم في الأرض. لذا ومن خلال تلك المعاني الوجودية لن يكون على المرء إلا أن يصارع الآخرين ويناكفهم ويعتدي عليهم حتى يضمن حقه ويحقق وجوده وينجو من عقوبته الأبدية. وهذا التشويه لمعنى الوجود يخلق أرضاً خصبة للفوضى والنزاعات في الأرض. يعتبر البروفيسور الأميركي جفري لانج - نصراني، ثم ألحد، ثم أسلم- أن الخطاب المذكور في القرآن حول وجود البشر في الأرض لم يأتِ على صيغة العقوبة، بل إن الله وصف هذا النزول بأنه (مستقرٌ ومتاع إلى حين) وأن وجود الإنسان -الكائن المتعلم والأخلاقي- هو توسط ما بين الملائكة والشياطين، ولكونه اتسم بالعلم والمعرفة، فإنه أقدر على اجتناب إغواء الشيطان له عن الانحياد عن الطريق، واتباع طرق الخير بإرادته، وذلك اختبارٌ وضعه الله له في الأرض، ولن يكلف الله بالاختبار إلا من يمتلك القدرة على اجتيازه، ويُعبر لانج عن اندهاشه حول وصف القرآن بأن ما يدعى بالعقوبة الأبدية لنزول آدم لم يكن إلا "مجرد زلة" (فأزلهما الشيطان عنها). بيت القصيد هنا، أن وجودنا كبشر في الأرض لم يكن عقوبةً أبداً، بل إنه امتياز لأن أصل خلقتنا وتكويننا هو العلم والمعرفة، وأننا نتسم بقدرتنا على التفريق بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، والخير والشر، وقدرتنا على اتخاذ القرارت والخيارات، واستقاء هذه المعاني الوجودية سيدفعنا حتماً إلى تحقيق المراد من وجودنا في الأرض، وأن اهتمامنا بالعلم والمعرفة سيفضي إلى أداء الأمانة التي استخلفنا الله عز وجل عليها في الأرض. لحظة ختام، العلم رفعة دنيوية وأخروية (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).