ما سر إقحام اللغة بين هذه الثنائية؛ ثنائية الطعام والشراب. قد يبدو الأمر غريبا بل إنه غريب بالفعل، ولكن عندما نحلل هذه الثلاثية سنجد أنها ثلاثية الحياة، وبدون إحداها لا تقوم للإنسان حياة ولا للوجود معنى. حدث كما يقال إن الشاعر والأديب والفنان والعالم الطبيعي حاكم صقلية في القرن الثالث عشر فردريك الثاني أخذه فضوله المعرفي إلى طرح تساؤل مضمونه يتجه إلى اللغات، وماذا لو أن طفلا أو مجموعة أطفال نشؤوا دون أن يسمعوا أي لغة؛ فبأي لغة سيتكلمون عندما يكبرون، وقد يبدو الأمر من السذاجة بمكان، فليس هناك أكثر من إجابة، فمن لم يتعلم أي لغة لن يتحدث بأي لغة! لم يأخذ فردريك الثاني الموضوع بهذه البساطة، وأمر بجمع عدد من الأطفال، وعزلهم مع مربيات تحت عناية تامة، ولكن دون أي كلام مباشر أو أي لغة جسدية متعاطفة أو ودودة أو لغة تعبيرية في الوجيه تنم عن أي مشاعر أو شعور، وانتظر وهو يخمن؛ هل سيتحدثون اللغة العبرية أم اللغة العربية أو اليونانية أو اللاتينية أم لغتهم الأم المحلية اللغة التي يتكلم بها أهاليهم في صقلية! لم يتكلم الأطفال أي لغة، وهذا أمر ندركه الآن ومن قبل ونتفهمه دون تفكير، ولكن الذي حدث أسوأ من هذا فقد مات جميع الأطفال! هذه القصة التي يبدو أنها قصة حقيقية تجعلنا نتوقف عند قيمة اللغة، وأنها مادة من مواد الحياة. اللغة بكل أشكالها لغة الحديث، لغة المشاعر، لغة الجسد. عندما حٌرم الأطفال من أصوات الأحرف، وملامح المربيات التي تدل على عطف أو حب أو اهتمام، ولغة اللمسة الحنونة الرحيمة أصبحوا يعيشون بدون لغة يتواصلون بها أو لغة تنتزع من دواخلهم الخوف والترقب أو لغة تجعلهم يعرفون ما يدور حولهم وما ذا ينتظرهم؛ عندما حرموا من كل أنواع اللغة ماتوا جميعا لأن ركنا من أركان الحياة قد انتفى من حولهم وفي دواخلهم، ومصداقا لهذا فإنه حتى الأطفال الذين عُرفت قصصهم في الحقيقة أو في الخيال القصصي عندما تركوا في الأدغال أو الغابات ظل منهم على قيد الحياة من حضي بصورة واضحة على أشكال من أشكال اللغة، ومن أشهرها لغة الرعاية والاهتمام والتواصل بالإيماءات الدالة على معنى صادر عن حيوان من حيوانات الغابة. اللغة نظام يرتبط مع أنظمة الكون المحكم، وكلها تسير وفق ناموس كوني دقيق، وكل نظام يؤدي دوره في دائرته الخاصة وفي دائرة الوجود العامة. ليس هناك حياة إلا بلغة تصل عناصرها ببعضها، وتعطي الأشياء معانيها، وتربط الروح بالجسد، والجسد بالحياة من حوله. حديث عن اللغة بشكل عام يأخذنا إلى لغتنا العربية التي لا تربطنا بالحياة والوجود فقط بل إنها جسر نعبره لما بعد الحياة الدنيا، قرآن حكيم بلسان عربي مبين، لغة قرآنية عظيمة هي الحياة الدنيا والحياة العليا جديرة أن نعتد بها ونهتم بمفاصلها وتفاصيلها.