لم يخفِ هوجارث في دراسته لسجل الرحالة الاوربيين للجزيرة العربية إعجابه الشديد بعمل دواتي الكبير "ترحال في صحراء الجزيرة العربية". يقول هوجارث: انه لم يسبق لأحد أن نظر نظرة فاحصة ودقيقه لأرض الجزيرة العربية وإلى الحياة فيها كما فعل داوتي. ولم يسبق لأحد أن رسم هذه الارض وهذه الحياة من خلال الأدب وبمثل هذه الحساسية، والصدق واليقين، ولم يقتصر على ذلك التصوير الأدبي للحياة البدوية، التي لاقى منها الأمرّين، والتي تجول خلالها كأفقر الفقراء، وإنما امتد أيضا إلى البلدان الواحية في نجد. إن عمل داوتي كان مواكباً لذلك المجتمع الذي كرس نفسه لوصفه. كان عبور صحراء النفود، المغامرة الأكبر أو القلق الاكبر للراغبين في الوصول إلى قلب الجزيرة العربية. وتشير المصادر إلى أن بالجريف أثناء عبوره صحراء النفود توقف عندَ ما عُرف بحفر حدوة الفرس. وهي تطلق على الحفر العمودية التي تتقاطع مع عروق المياه الموجودة تحت سطح الأرض وكانت المصدر الرئيسي للمياه أثناء عبور صحراء النفود وفيما يتعلق ببالجريف والعطف الذي كان يكنه لسكان المدن وينكره على البدو، فإن أفضل ما يمكن قوله: إن الصورة الحية التي رسمها بالجريف لبلدة حائل أقل إقناعا من الصورة التي رسمها داوتي لتلك البلدة. كما أن رواية بالجريف عن الحياة في الرياض يجدر بنا ان نقارنها بالوصف الذي أورده داوتي عن الحياة في عنيزة. وعن مجتمع التخييم والسهوب والصحارى، والذي يتخذ طابعا واحدا في كل انحاء الدنيا، ولا يتغير إلا ببطء شديد على امتداد قرون من الزمن، شأنه في ذلك شأن كل ما يتعلق بالإنسان، وسنجد تلك الصورة الوصفية التي رسمها داوتي هي فصل الخطاب في هذا الأمر. والسبب أن داوتي لم ير فقط هذا المجتمع ككل، وإنما وصفه بلغة بلغت من الوضوح والدقة حداً يجعل منها أمرا محتوما لأسلوب فائق الجودة. كان عبور صحراء النفود، المغامرة الاكبر أو القلق الاكبر للراغبين في الوصول إلى قلب الجزيرة العربية. وتشير المصادر إلى أن بالجريف أثناء عبوره صحراء النفود توقف عندَ ما عُرف بحفر حدوة الفرس. وهي تشكل أشهر ملمح في تلك الرمال العميقة. حفر حدوة الفرس، هي ما يسميه العرب بالفلج. وهي تطلق على الحفر العمودية التي تتقاطع مع عروق المياه الموجودة تحت سطح الارض وكانت المصدر الرئيسي للمياه اثناء عبور صحراء النفود. "كارلو جوارماني"، الذي جاء بعد بالجريف لم يترك رواية مفصلة عن رحلته الاخيرة في نجد. وبعد أربعة عشر عاما جاء رحالة أكثر دقة وملاحظة وهو الفرنسي "شارل هوبر"، وكان مكلفاً من وزارة التثقيف الفرنسية باكتشاف نجد لأبعد مكان يمكن أن يصل إليه. وبحكم تدريب هوبر ليكون عالما او متخصصا بالطبيعة فقد حولته الظروف إلى آثاري.. وينسب إليه اكتشاف حجر تيماء الذي نقله إلى حائل ومن ثم أرسل إلى باريس.. إلا ان هوبر لقي حتفه أثناء عودته إلى حائل. ويشير هوجارث إلى أن المجموعة الثانية التي غامرت بعبور النفود لم تكن ترمي إلى هدف علمي أو تجاري أو سياسي عاجل. لقد فعلت ذلك بدافع الفضول الرومانسي ومن باب التعاطف الخيالي مع المجتمع البدوي. فهذا "ويلفرد بلنت" وزوجته "آن بلنت".. كان شغفهما كبيرا لرؤية مركز أنقى السلالات للحصان العربي، إلا أن اسهامات آن بلنت وزوجها في وصف جغرافية منطقة جبل شمر أصبحت فيما بعد من أهم الاسهامات. وفي عام 1893 عبر "ادوارد نولد" صحراء النفود، إلا ان اهتمامه كان منصبا على تسجيل التغييرات السياسية تسجيلا تاريخيا دون عناية كبيرة بجغرافية المنطقة. ولذا بقي عمل داوتي من أهم المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية في قلب الجزيرة العربية في تلك المرحلة من التاريخ. أما طريقة داوتي في الكتابة فيرى هوجارث: " إن مفرداته تأتي في مكانها المناسب والصحيح كما هي الحال في الاساليب العظيمة كلها. وكل كلمة من تلك الكلمات لها وقعها وإيقاعها على القراء الذين رأوا أو شاهدوا الصحراء العربية العظيمة والسهوب الترابية والخيام السود.. ونحن لا يمكن أن نوفي صفحات داوتي الحبلى حقها عن طريق الاقتباس منها ولكن على سبيل المثال اتمنى أن يقرأ هذا الاقتباس اولئك الذين خبروا الابل وتعاملوا معها: (إذا حدث أن عثرت تلك الماشية الضخمة على ماء المطر محصورا في أي تجويف من التجاويف بين الصخور... فقد شاهدت تلك الماشية - الابل - وهي تحني أعناقها الثقيلة الطويلة، وتتشمم الماء، ولا تبلل منه سوى الحدود الخارجية لشفاهها المتدلية، وتروح تحرك تلك الشفاه وتهز رؤوسها ثانية، كما لو كانت تجد الماء شيئا كريها. ابل البدو تكون قوية وعفية في تلك الاسابيع وافرة المرعى، وفي هذه الفترة تزداد لحوم الابل وتختزن المزيد من الشحم في أسنامها تحسبا لصيف الصحراء وتحسبا أيضا للعام الطويل. وعندما يجري إعادة تلك الابل إلى مراحها عند غروب الشمس، وبعد أن تملأ بطونها، فإنها تعود وهي تعدو أمام رعاتها، وهنا تخرج ربات البيوت، من خيامهن وهن يرددن اثناء مجيء الابل وولو - وولو ولتوقيف الابل بقوة يقلن وه – هو – وه – هو... وهن يتحدين الابل لئلا تتعثر في حبل من حبال الخيام بقولهن هتش .. ويجري تبريك الابل كل مجموعة منها بجانب أو حول خيمة صاحب الابل.. وترقد الابل طوال الليل وهي تسترجع وتجتر العشب، الذي أكلته حتى يطلع نور الصباح. والعرب يقولون إن ابلهم لا تنام مطلقا، وهذا يعني ان ذلك الجمل المتعب قد يمد عنقه الطويل على الأرض، ويغلق عينيه اللامعتين لبرهة صغيرة، ولكنه بعد فترة وجيزة يصحو من جديد ويبدأ عملية الاجترار من جديد)". لا أستغرب أن يذهل مثل هذا النص هوجارث، ومحل الدهشة الوصف الدقيق الموجه لمجتمع لا يتعامل مع الابل ولا يعرف الكثير عنها أو ربما حتى القليل. التفاصيل تخلب لب الباحثين، بينما قد تمر على كثيرين ممن خبروا حياة الصحراء وعاشوا بها دون التفاتة واحدة. هناك من يرى أن اكتشاف مجريى وادي الرمة من أهم الاكتشافات التي خرج بها الرحالة الأوربيون عن طبوغرافية الجزيرة العربية. وبرأيى ان نسيان مجرى هذا الوادي العظيم يعود لكون الجغرافيين المسلمين الاوائل لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة. وقد استمر ذلك النسيان إلى العصور الحديثة. فهذا والين، ومن بعده بالجريف، يعكسان الانحدار الرئيسي في الجزيرة العربية متخيلين أن أعلى نقطة في الجزيرة العربية في الشمال الشرقي. إلا أن شهادة داوتي وهوبر أكدت استمرارية الوادي من خيبر إلى نهر الفرات. وأن مدن القصيم هبة هذا الوادي. وهذا الوادي العظيم ربما يفيض مرة في عمر الانسان. وقد سمع داوتي أن آخر فيضان حدث كان منذ اربعين عاما مضت على رحلته. وان ذلك السيل أو الفيضان تسبب في امتلاء آبار القصيم كلها إلى حوافها طوال اثني عشر شهرا، ونتج عن ذلك بحر واسع نشأ عن شد رملي تكون في المنطقة، وان ذلك البحر الكبير استمر مدة عامين وجذب إليه كائنات وحيوانات غريبة لم يكن لها وجود في القصيم من قبل. وليس كل هذا ما يفعله الوادي لمنطقة القصيم، فهو أيضا يوفر طريقا طبيعيا مباشرا لأولئك الذين يتنقلون عبر الجزيرة العربية إلى العراق، ولا يترتب ذلك لمجرد وجود عدد كبير من السكان الاقوياء يمارسون الزراعة ويرتبطون بالأرض ارتباطا وثيقا، وانما يشكلون أيضا طبقة من التجار الأثرياء ذوي المعارف الجيدة. ومن اللافت إشارة هوجارث إلى أن أهل القصيم شكلوا أغلبية العمال الذين كانوا يعملون في حفر قناة السويس. وأعتقد أن هوجارث يشير إلى دور ما للعقيلات في حفر القناة. وكنت قد سمعت في حديث خاص مع الاستاذ يعقوب الرشيد شيئا من هذا القبيل، إلا ان اشارة هوجارث تؤكد ذلك، مما يجدر معه أن تكون هناك دراسة تاريخية تكشف أبعاد هذا الدور، وأعتقد في هذا الصدد انه يمكن الاستفادة أكثر من وثائق الارشيف الفرنسي في تلك المرحلة..