ضمن مبادرة هيئة الأدب والنشر والترجمة، أقام الشريك الأدبي مقهى رسم بتبوك، محاضرة بعنوان الليل وبدائله التعبيرية، في ديوان شهد الحروف، للراحل الأمير بدر بن عبدالمحسن قدمها الكاتب د. طامي الشمراني عضو هيئة التدريس بجامعة الجوف، وبحضور عدد من المثقفين والمهتمين بالمنطقة. بدايةً استهل الشمراني الأمسية بسرد تاريخي، تناول من خلاله ارتباط الشعراء بالليل، بوصفه باعثاً على التفكير ومجالاً للتأمل ومصدر إلهام، مؤكداً بأنه لا يكاد يخلو ديوان شعر من مفردة الليل الذي تحول إلى رمز من رموز الشعر العربي، إذ أن قراءة المدونة الشعرية العربية تكشفُ عن كثافة حضور المفردة على اختلاف العصور وحالات الشعراء، وتبعاً لمواقفهم الانفعالية وتجاربهم الشعرية، مستشهداً بنماذج عدة احتشدت فيها لفظة الليل باختلاف المعاني والصور والأخيلة في الشعر النبطي والفصيح، ما يؤشر إلى مركزية هذه اللحظة وتحديداً في الشعر الرومانسي النثري، ومن هنا لا غرابة أن تحضر هذه اللفظة مع بدائلها التعبيرية بقوة في شعر الأمير بدر بن عبدالمحسن. وانتقل الشمراني بعد ذلك إلى قراءته النقدية وما تمثله هذه المفردة المتكررة في ديوان شهد الحروف من خلال محاور جسدت لوحات وصور شعرية مختلفة منها: البدائل التعبيرية، تشخيص الليل، تجسيد الليل، دلالة الرحيل، الليل المشهدي. موضحاً أن الليل جاء في شعر الشاعر مكتنزاً بحمولاته الدلالية المختلفة التي استوعبت جميع المواقف الموضوعية، والحالات الإنسانية التي عاش الشاعر لحظاتها الانفعالية، ومفارقاتها المعنوية والجسدية على حدٍّ سواء، لافتاً إلى أن مفردة الليل جاءت بلفظتها الصريحة تارةً، كما بدأت من خلال بدائلها التعبيرية من مصاحبات الليل، ومسمياته حيناً آخر. وعن تجليات الليل وبدائله التعبيرية، أفرد د. طامي مساحةً للحديث عن هذه الثيمة كما وردت في ديوان شهد الحروف، "العنوانات" حيث يُشكل العنوان نقطة ارتكازٍ رئيسٍ تسهمٌ في فهم دلالات النص وتحليل أبعاده، ومن الألفاظ الصريحة لليل جاء لفظ جفٌن الليل، ليل التجافي، عود الليل، ليلة تمرين، ليلة، الليالي الوضح. أما ما جاء في مفردة الليل من البدائل التعبيرية قولهُ: قمرها، قمر قلبي، عيونك والعتيم، ضي المصابيح، يذكرني القمر ظلك. وهنا الحديث للشمراني الذي يقول: نجد أن مفردة الليلِ شكلت بؤرةً دلاليةً على مستوى العنواناتِ كما أنهَا شكلت من ثيماتِ القصائدِ على مستوى التراكيب التي وردت فيها، ويمكننا التمييز بين انماط عدة من العنوانات هي: عنوانٌ اللفظةِ المفردةِ، وقد جاءت هذه العنواناتٌ في الدلالة على ليلةٍ معينةٍ بذاتها أما العنوان الثاني فهو عنوان التركيب الاضافي الذي شكل صورةً شعريةً بتقنية التجسيد أو التشخيص. وثالثاُ عنوان البدائل التعبيرية عن الليل وهي العنوانات التي جاءت بها بما يعبر عن الليل بالتلميح لا التصريح. ويقف د. طامي على أبعاد لفظ الليل من حيث اللفظ الصريح في العنوان ومن ذلك قصيدته الموسومة ب (عَود الليل) فقد ورد الليل لفظاً صريحاً، كما رصد الشمراني نماذج تُمثل العديد من المفردات التي لم يأت الليل بدلالتهِ الصريحةِ إنما دل عليه بعض مستلزماتهِ وأجزاؤه مثل نجمه في قولهِ: كل نجمةٍ شعشعت والقلبُ عتمة كانت أنتِ موضحاً أن الليل ُ ورد هُنا ببديلٍ تعبيري وهو نجمه وتركيب عتمة القلب كما أورد د. طامي قول الشاعر: وأنا أُحبك حبيبي في أملي ويأسي في قمري وشمسي في هذه الأبيات نجد أن بدر بن عبدالمحسن ذكر مفردة الليل من خلال دالة تعبيرية ترمز إليه وهو لفظ قمر الذي نسبه إلى ياء المتكلم، وقد يأتي الليل بوصفه مصدراً للخوف يقول: وليلٍ ملا قلبي ظلامه يروعيِ فقد جاء لفظ الليل نكره ليفيد بدلالةِ ليلٍ عام ٍغيِر محددٍ مما يعني أنه ليلٌ ممتدٌ دون تحديد زماني أو مكاني، وقد يأتي الليل بوصفه رمزاً للتعبير عن المشاعر كما في قصيدته شمس الورق التي يستهلها بقوله: أنا بظهر من سكوتي قبل شمس الورق ما تغيب قبل حبر الليالي يجف وأنا ما غنت جروحي ويمضي الشمراني في تناول مفردة الليل من خلال محور تشخيص الليل، فقد احتضنت تجليات الليل في شعر مهندس الكلمة جمالية أخرى لها حضورها، إذ لم يعد الليل مجرد زمنٍ، بل يتحولُ إلى إنسانٍ صديقٍ يرافقٌ الشاعر ويشاركهٌ ما يعيشٌ فيه من لحظاتٍ الحزن. يقول: يطيح جفن الليل وأهز كتفه نجماً يشع وباقي الليل مطفي هُنا الشاعرٌ يقدمُ لنا الليل بصفةِ شخصٍ خائرٍ القوى، محاولا كشاعر أن يشٌد أزره ويقدم لهُ يد المساعدةِ وهو يعاني الضعف، ولو تتبعنا النص إلى نهايته، نجدهُ يوصف الليل الذي يضفي علية حواسه فيجعل لليل طعماً يتسقُ وواقع الألمِ الذي يحسُ فيه، فيكون طعمِ الليل مراً مثل طعمِ الحنظلِ، وبذلك يرتقي الجمالُ التعبيريُ من خلالِ تقارض الحواس. ويواصل د. طامي قراءته لمشهد شعري جديد يوظف فيه الشاعر مفردة الليل بصورة ولغة متفردة لا غرابة في أن تأتي بهذه الحبكة الشعرية والنسق اللغوي المعبر يقول: يا بنت تو الليل ما راح نصفه ويا ليل بعض اللي مضى منك يكفي يشير د. طامي إلى ارتباط دال الليل هُنا بخطاب الأنثى "بنت"، ما يفصحُ عن تأجج عاطفي تحيلٌ علية دلالةٌ الليل الذي يريدٌ لهُ أن يكون متسعاً لما يعتملٌ في قلب الشاعرِ من مشاعر. وفي مشهد شعري آخر لمحور "الليل المشهدي" يرسم الشاعر مشهداً لليلِ الذي يكونُ فيه في فصلٌ الشتاء من خلالِ حركةِ المطرِ التي تجلت بدلالةِ الزمنِ الحاضرِ الذي عبرت عنه الأفعال ُ المضارعة، ينهمر، يرتفع، في إشارةٍ إلى تساقط ِ المطرِ، يقولُ: مطر معلق بنصف السماء لا ينهمر ولا يرتفع وكل ما بغينا نجتمع تحت المصابيح الزرقا يطيح منه رذاذ يستمر وصف المشهد في تصاعد الشعور بالزمن الذي يرغب الشاعر أن يتجاوزه لما يمثله الزمن من ثقل باعثهُ عدم تحقيق اللقاء ورؤية عيون من يريد أن يلتقي بها يقول: لك هالشوارع إنما تكفيك ساعة.. ساعتين بنشيب وحنَا.. واقفين تحت المظلة ما هو لكن خوف من البلل حنين للمصابيح الزرق ولليلةٍ سمراء سماها صافية ويواصل د. طامي وقفاته مع الصور الشعرية والدلالات التي حضرت فيها مفردة الليل منها دلالة الرحيل التي وردت في قصائد عدة منها ما اقترن ذكره بنجم سهيل المرتبط بالارتحال في قصيدته يا وارد الماء يقول: يا وارد الماء كيف ما شفت خلي لا واعذابي كان منزله خالي شدوا العرب مع طلعة سهيل قلي والإ بقي لطعون خلي توالي فقد عبر الشاعر من خلال ثيمة نجمة سهيل بحالة مفارقة بينه وبين من يحب وهو ما عبرت عنه ألفاظ الحقل الدلالي المرتبطة بالرحيل، مثل شدوا وهو ما يعمق الدلالة بحالة الفراق الحاصلة التي تزامنت مع ظهور نجم سهيل. ختاماً أوضح الشمراني صورةً شعرية لمحور تجسيد الليل الذي يتمثل في الأبيات الشعرية التالية: كن السماء صوتً من الذعر مبحوح والليل خيلٍ سود للضي تجتاح وهُنا صورة طريفة تفرد فيها الشاعر وهي غير مسبوقة إذ جعل الليل خيولاً سوداء تقتحم ُ النور، في وقت النهار، وهذا المشهد اغرى كثيراً من الشعراء ليكون مصدرا يستلهمون من جمالياته ومالاته.