لا شك أن الكلمات لا تتساوى في قيمتها الدلالية، على الرغم من أن الأصل فيها هو تحقيق التواصل، والإشارة إلى المُسمّى، فدوما نجد أن ألفاظاً محددة تتمتع بثراء دلالي وجمالي وثقافي يجعلها كلمات مفتاحية في فهم الثقافة المنتجة لها، ومن الألفاظ الثقافية الدالة في الثقافة العربية، التي انعكس ظهورها وأهميتها في أشعارها، كلمة الإبل، فهي من المفردات التي رافقت الشعرية منذ أقدم عصور الشعر، وما تزال تحتفظ بقيمتها الرمزية حتى اللحظة الراهنة في مختلف الأنماط الشعرية الفصيحة والعامية. والحق أن التأمل في الحقل الدلالي الدال على أسماء الإبل سيفضي بنا إلى ملاحظة التنوع الشديد في أسمائها وأحوالها وأعمارها وأوصافها، وقد حضرت هذه الأسماء بتنوعاتها في شعرنا العربي الذي أخلص للبيئة فنقل مسمياتها المتنوعة، ولو تأملنا حضور هذه المسميات فيمكن التوقف عند مفردات كانت أثيرة لدى الشعراء، وهي مفردات: الناقة، والركائب، والعيس، والظعائن، ولا يخفى على القارئ الحصيف ارتباط هذه المفردات بالرحيل والتنقل والسفر الذي فرضته طبيعة الحياة الصحراوية التي جعلت الإنسان لا يستقر في مقام فترة طويلة إلا ويعاود الارتحال طلبا للماء والكلأ، ومن هنا كانت الإبل وسيلته الأساسية في هذا التنقل، فانتقلت التسمية من علامة لغوية دالة على مُسمّى، لتصبح صورة عاكسة للحياة بكل ما تحمل من وجد وألم وحب، فكانت رحلة الظعائن من أشد الصور بلاغة في التعبير عن لحظات الوداع لا سيما بين المحبين، فحضر حادي العيس باعتباره رمزاً دراميا ومأساوياً قي إظهار مواجد الشعراء وخسائرهم العاطفية الفادحة: (يا حادي العيس عرّج كي نودعهم) إنه رمز صاخب لمواجع الشعراء في لحظات الوداع. ولم يقتصر حضور الإبل في الشعر باعتبارها وسيلة للنقل، نقل الشاعر أو ارتحال المحبوبة، بل إن مصاحبتها للشاعر في ليله ونهاره، وفي حربه وسلمه، وحلّه وترحاله، جعل منها الرفيق والصاحب، وجعل من التغلغل في وصف تفاصيل جسدها، وحركتها، سمة بارزة لدى أغلب الشعراء، ولم يكتفِ الشعراء بهذه الصور الحسية المباشرة للناقة، بل شكل الحوار معها مرآة عاكسة لعوالم الشاعر النفسية، عندما تصبح رفيق الهم، والمعاناة. وهذا ما يجعل الحوار معها عنصراً تشويقياً، عندما يقيم الشاعر حوارات مع ناقته، تعكس حالته النفسية واضطرابه، وقلقه، وهذا ما يقدم لنا مثالاً دالاً عليه المثقب العبدي، الذي يجعل من الناقة صورة عاكسة لحالة المحبوبة من حيث التمنع والبين والصدود والتذمر في قصيدته الشهيرة: أفاطم قبل بينك متّعيني ومنعك ما سألت كأن تبيني فقد توقف في الرحلة عند ناقته وأظهر من خلالها حالته مع ناقته التي تضمر صورة علاقته مع محبوبته، فهي تتأوه من تنقل الشاعر الدائم: أَكُلُّ الدّهرِ حَلٌّ وارْتِحَالٌ أما يُبقي عليّ ولا يقيني فيعمد الشاعر إلى تشخيص حزنه من خلال عكسه على ناقته، رفيقة سفره، ومثل هذه الحضور كثيف في أنماط مختلفة من الخطاب الشعري التراثي، فتحضر باعتبارها وسيلة الشاعر في الوصول إلى الممدوح، والتحريض على هذا الوصول، وغير ذلك كثير. والمتأمل في حضور هذه اللفظة ومشتقاتها في الشعر الحديث والمعاصر سيلحظ أن هذه اللفظة قد اتخذت دلالات رمزية باعتبارها لفظة أصيلة في الدلالة على المكان والبيئة والقيم بعد أن صار دورها الحياتي في عصرنا مجرّد عادة فلكلورية تمتلك قيماً رمزية ومعنوية. لا شك أن المتأمل لحضور الإبل في ثقافتنا العربية في حقول أخرى، كالمثل والحكمة، والتصوير، والرسم، وغيرها سيجد معاني أخرى متعددة تعكسها هذه اللفظة وتظهر أثرها في ثقافتنا، بل ربما بتنا في حاجة إلى صناعة موسوعة ثقافية للإبل وألفاظها وحضورها في مشهدنا الثقافي التراثي والمعاصر.