التاريخ معمل للدراسات الاستراتيجية، وروح تسري في وجدان الشعوب، ورأس المال التاريخي يعني امتلاك ثروة من التراث المادي وغير المادي التي تشكل التاريخ السياسي والثقافي والديني والاجتماعي والاقتصادي والفني إذا ما استثمر بشكل صحيح، بحيث تكون قابلة للاستثمار فيها وتخزينها واستدعائها عند الحاجة، ولها أسواق تاريخية تعرض فيها وجمهور يقيمها وسعر صرف بحسب قوة القصة التاريخية. وتكمن أهميته في تحوله تلقائيًا إلى رأسمال اجتماعي، وتتفاوت المكانات للأسر والقبائل والمدن والمجتمعات بحسب رصيدها التاريخي وقوة شهرته والاعتراف الشعبي به، ثم يتحول تلقائيًا إلى رأسمال اقتصادي، وتشكل جميعها تاريخ الدولة. وإذا كان امتلاك التاريخ بهذا العمق وله هذه الأهمية من مستويات الهوية والأمن الاجتماعي، فإن التقليل من قيمة التاريخ أو تحويله إلى مراكز رصد وتوثيق بدون عوائد سياسية واستراتيجية واقتصادية، سوف يكبّد الدولة والمجتمع خسائر رمزية في المكانة والانتماء وفي الضبط الاجتماعي المستمد من الانتماء. التاريخ وبناء الهوية تؤكد مدرسة كوبنهاجن لدراسات الأمن والسلام أن التاريخ والعادات والتراث لها أهمية قصوى في التماسك الاجتماعي، وينبغي المحافظة عليها بوصفها هوية المجتمع التي تتعرض للتهديد المستمر، ومن ثم فهي تصنف ضمن الأمن الاجتماعي وركن من أركان الدولة. وتتأكد الأهمية في عصر العولمة وهيمنة التقنية، إذ أصبح التاريخ قوة محركة للمجتمع كالاقتصاد؛ بحيث يمكن للأفراد والشركات والشعوب والدول امتلاك الأرصدة الاقتصادية، بحجم ما ورثوه من تاريخ أسلافهم من إنجازات ومن عادات. وكثيرًا ما ينشب النزاع في المحاكم الأوروبية والمنظمات الدولية على أحقية امتلاك التراث غير المادي وتوثيقه في المنظمات الدولية المعنية، وفي صفحة التراث العالمي غير المادي على موقع اليونسكو ملفات كثيرة مصنفة على قيد المناقشة أو صدر حولها قرار، مثل قضية أحقية تسجيل طبق الكسكسي كتراث ثقافي بين المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا. وفي عام 2015 دخلت السعودية وعمان والإمارات وقطر في نقاشات حول تسجيل «القهوة العربية» في اليونسكو، وهو مصطلح شائع عربيًا، لكن صورته الذهنية سعودية بامتياز، وانتهى بتوثيقه كتراث مشترك، مما يعيد التفكير في آليات تجهيز الملف وفق المعايير الدولية، وبما أن لكل شعب أسلوبه في إصلاح القهوة وتقديمها؛ فقد انفردت السعودية بتسجيل «القهوة السعودية». ودخلت اليونان في نقاش طويل لتسجيل جبنة الفيتا مع الدنمارك، وانتهى بقرار محكمة العدل الأوروبية بالاعتراف بجبنة فيتا لصالح اليونان، واحتكار تسويقها العالمي للماركة. وتكمن أهمية توثيق التراث في المنظمات الدولية بهدف الاعتراف بالهوية الثقافية ولتحقيقه عوائد اقتصادية وتشجيع السياحية الثقافية والأفلام الوثائقية وتسويقي التراث. والدول التي تهمل الاستثمار في رأسمالها التاريخي قد تجد نفسها في موقف دفاعي أمام الآخرين الذين يتبنون تراثها، وسبق أن كتبت عن بعض أزمات رأس المال التاريخي السعودي حول «الحضارات القديمة وأيام العرب: القوة الناعمة المتجددة» https://a6.alriyadh.com/1888399 الاستثمارات الناعمة في التاريخ أصبحت صناعة السينما التاريخية أحد فروع رأس المال التاريخي؛ إذ يؤكد ديفيد كانادين، محرر كتاب «ما التاريخ الآن؟» (2006) على ازدهار صناعة السينما في أوروبا بعدما اتجهت نحو التاريخ بحثًا عن موضوعات لأفلامها، ووجدت في التاريخ القديم والحديث موضوعات مدهشة لإنتاج أفلام ومسلسلات تلفزيونية، وقد حققت مشاهدات عالية واهتمامًا جماهيريًا كبيرًا. وقد سمحت الوكالة الفيدرالية الأمريكية بنشر كثير من الملفات الأمنية، وصدر كثير منها فعلًا في قناتها على يوتيوب «ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالي»، وجميعها موجهة لعرض قضايا أمنية غامضة، وتمكنت الأجهزة الأمنية من كشفها وتفكيكها والقضاء عليها بأساليب احترافية، مما رسخ صورة ذهنية قوية لها وللزي الأمني الذي اشتهر به رجالها. التاريخ والدفاعات النفسية أصبح التاريخ والحضارة ملجأ للشعوب في حال تعرضها للأزمات الطارئة، من أجل أن تستلهم من روحها قيم الصمود واحترام بناة الحضارة، وخاصة إذا انهارت الدولة أو ضعفت. والتاريخ صمام أمان لمن يبحث عن مجد حققه أسلافه، ولم تسعفه الظروف لتحقيق مثله وهذا أجراء أفضل من الاستسلام للظروف، وصمام أمان للأفراد والمؤسسات لبناء ثقة في الحاضر وأمان مستقبلي استنادا إلى مصداقية منجزات الماضي، وهذا مطلب أساسي عند تقييم الكيانات والشعوب. ونشأ منصب «مدير السرد القصصي» في علوم الإدارة لوصف الشخصيات التي تصنع قصة تاريخية لشركاتها والقيم الاجتماعية التي تبنتها وحافظت عليها كقوة استراتيجية وتستخدم التاريخ لتعزيز الهوية المؤسسية، فالشركات لم تعد تكتفي بصناعة التاريخ، وإنما أعادت استلهامه وروايته للأجيال. وازدهر «العلاج السردي» في علم النفس لتأهيل الأشخاص لسرد قصصهم وتاريخ حياتهم الشخصية، وخاصة المشاعر السلبية والإحباطات المتكررة التي تضغط على تفكيرهم وتحويل ضعفها إلى قوة تمكنهم من مواصلة حياتهم بأمان نفسي وثقة. والعلاج النفسي على مستوى الشعوب أكثر حضورًا، فقد أكد عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة في كتاب «الحرب الحضارية الأولى» (1995) على تسارع التاريخ منذ الخمسينيات بشكل يهدد النشاط الاقتصادي والفكري لكثرة التطورات غير المتوقعة، مما جعل العالم الثالث يعيش بتسيير أزماته، ولا يمتلك القدرة على استبصارها، ومبدأ استشراف المستقبل بالاستعانة بالتاريخ يحقق الديموقراطية العميقة الذي يجعل القرار السياسي معبرًا عن الرأي الشعبي ومنطلقًا من تراثه، ويؤكد المنجرة على أن قيم التاريخ والحضارة لا يمكن إسقاطهما من هوية المجتمع، مهما اختلف الزمن. ومن خلال ملاحظاتي في رصد علاقة التاريخ بالمجتمع واستخداماته الاستراتيجية والسياسية، فيمكن ملاحظة تحرك رأس المال التاريخي المستوى الشعبي بكثرة استدعاء التاريخ الحضاري القديم لدى الشعوب التي تواجه أزمات؛ إما اقتصادية أو غلاء معيشة أو أزمات سياسية وحروب؛ حيث يستدعي العراقيون حضارات سومر وآشور، ويستدعي المصريون حضارة الفراعنة، ويستدعي اليمنيون فكرة أصل العرب، ويستدعي اللبنانيون الحضارة الفينيقية. وكل هذا الاستدعاء عبارة عن آلية فعالة، تمنح الشعوب ذات الإرث التاريخي، بفضل تاريخها العريق، قدرات خاصة مستمدة منه، تعينها على تجاوز أزماتها، ويمارس دوره العلاجي المتمثل في رفع الروح المعنوية الشعبية، وتعزيز تحمل الأزمات تأسيًا بسيرة الآباء المؤسسين. التحديات أصبح التاريخ أحد أهم أدوات التأثير في الشعوب، ويبرز هذا بوضوح بعد ازدهار الاستخدام السياسي للحمض النووي في تحديد الهوية القبلية وإعادة توزيع العمق القبلي بعد ثورات الشعوب العربية وتشتت الهوية عام 2011؛ حيث وجهت مراكز دراسات استراتيجية في الشرق الأوسط اهتماماتها على هذا الملف وتغذيته شعبيًا للتحكم في توجيهه وتكثيف الثقل نحو قبائل معينة. كما يوجد دول حديثة النشأة بلا تاريخ، وتواجه أزمات في بناء هوية متكاملة لشعوبها، فتلجأ إلى محاولة العودة للتاريخ لاقتباس أحداث جوهرية تربط حاضرها بماضيها، وتعمل على توحيد توجهات شعبها؛ حيث تظهر نتائج الدراسات التاريخية التي تجرى في إسرائيل مثل كتاب «إعادة صياغة ذاكرة الهولوكوست: السينما الوثائقية للناجين من الجيل الثالث في إسرائيل» (2019) للمتخصصة في الأفلام التاريخية ليات ستير ليفني، انفصال الجيل الثالث من اليهود عن فكرة الصهيونية والهولوكوست، وهي رأس المال التاريخي الرئيس الذي تضخ فيه إسرائيل لشعبها و»العصبية» العرقية التي تكثف المعاني حولها بحسب نظرية تأسيس الدول لابن خلدون، إلا أن الجيل الثالث لم يعد يهتم بمسألة المحرقة، بحيث لا تمثل لهم قضية كما كانت لدى أسلافهم، وهذا ما يهدد الروح المعنوية ووجود قضية للشعب، ما تطلب البحث عن قضية تاريخية تمنح التماسك للوجود الإسرائيلي. وتعتبر قضية «معاداة السامية»، هي العصبية الجديدة، واستطاعت أن تصعد بالفكرة إلى مستويات عليا، وكسبت إدانة الأممالمتحدة لمن يعادي السامية، وهي فكرة تؤكد وجود الهاجس التاريخي الذي يحقق التماسك الداخلي. وتستند إسرائيل بشكل كبير على بناء هويتها من عمق المنطقة العربية، رغبة في أن توثق ارتباطها بالأراضي الإسرائيلية من منطلقات تاريخية، فالسامية نسبة إلى شعوب أصلها من جزيرة العرب، والصهيونية نسبة إلى جبل صهيون التاريخي في فلسطين وإسرائيل نسبة ليعقوب، مع الحرص على استخدام مصطلحات عبرية في الداخل. ويلحظ توجه مراكز الدراسات الإسرائيلية إلى سياسة جديدة تمثل الانخراط في الهموم اليومية للشعوب العربية بعد ثورات عام 2011؛ حيث أسست حسابات لمشاهير يهود على فيسبوك لمماحكة الشارع المصري الذي ينشط على هذا التطبيق، وحسابات على منصة إكس لمماحكة الشارع السعودي الذي ينشط على هذا التطبيق بمزاين الإبل والتظلمات من التحكيم في الدوري، وتكشف التعليقات على تغريداتهم ارتباط ثنائية عن الجاهزية للحوار، وهذا المغزى المستهدف. ومن المؤكد أن مراكز الدراسات المستقبلية تؤمن بتغير القيم حسب تغير الأجيال، والتعرف على القنوات الناعمة للتغيير من أسفل الهرم كالأفلام وتطبيقات التواصل والألعاب، وليس بالقرارات الكبرى. ختام التاريخ رأسمال للأفراد والمؤسسات والدول، ولكل منهم قصته التي يرويها وتاريخه الذي صنعه، ولكن يتأكد رأس المال التاريخي للدول بشكل أكبر بوصفه استراتيجية أمنية وسياسية واقتصادية وأداة للتنبؤ بسلوك الآخرين ووسيلة تأثير إعلامي وأمان نفسي للشعوب. لذلك يعتبر إنشاء مراكز احترافية متخصصة ركيزة أساسية لفهم الحاضر والتخطيط للمستقبل ولدعم اتخاذ القرار المبني على الأدلة، ومن هنا يختلف التاريخ الفلسفي عن التاريخ التقليدي والأكاديمي. ورغم الجهود الكبيرة إلا أنها تسير في اتجاه معرفي واحد، ولم يعد كافيًا أن تعنى الدولة بتاريخها بوصفه تراثا ومصدرا للقيم والفنون، إذ تفرض روح العصر الجديدة تأسيس مراكز دراسات مستقبلية واستراتيجية ومراكز جديدة معنية بالتاريخ المحلي والشرق الأوسط والقرن الأفريقي، وتتمتع برؤية واضحة وتستقطب مفكرين لهم جهود ملموسة وأفكار تقدمية تمكنهم من تحليل التاريخ بما يتواءم مع التغيرات الجديدة. إن التاريخ رأسمال لمن يجيد التعامل معه، وله تشعبات مختلفة، تستطيع الدول أن تستفيد من تاريخ دولة أخرى باعتبارات مختلفة كالاعتبارات العرقية والقبلية واعتبارات الأرض وتاريخ الشعوب السابقة فيها.