في مشهد حديث من إحدى المسلسلات العربية، تتبادل الشخصيات الحوار بخليط عجيب من العربية والإنجليزية، إلى درجة أن المشاهد بات يحتاج إلى ترجمة – حرفيًا! والنتيجة؟ جمهور عربي يتساءل: لمن تُصنع هذه الأعمال؟ ولأي فئة من الناس تُوجّه؟ في البداية، لم يكن استخدام الإنجليزية في الأعمال العربية بهذه الكثافة، بل كان مقتصرًا على حالات محددة تتطلبها القصة أو الشخصيات. لكن الآن، أصبح هذا الاستعراض اللغوي ظاهرة تنتشر كالنار في الهشيم. على سبيل المثال، في بعض المسلسلات، نجد شخصيات تتحدث بلغة هجينة وكأنها تخاطب جمهورًا لا يفهم العربية، حتى البرامج الحوارية، يبدو وكأن المذيع يتنافس مع ضيوفه على استعراض مهاراته في الإنجليزية. وبين هذا وذاك، يظهر السؤال الأهم: ماذا عن المشاهد العادي الذي لا يتحدث الإنجليزية أو يفهمها؟ هل تم تجاهله عمدًا؟ أم أن صُنّاع المحتوى باتوا يعيشون في فقاعة ثقافية موجهة للنخبة فقط؟ لا يمكننا أن نغفل أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي هوية وثقافة ومرآة للمجتمع. لهذا السبب، حين يتحدث المذيع أو الممثل بلغة أجنبية، يبدو وكأنه يرسل رسالة مبطنة تقول: "هذه لغتنا الجديدة، ومن لا يفهمها، فهو خارج اللعبة"، وبالتالي، يمكن اعتبار هذه الظاهرة ليست فقط إقصائية، بل تحمل في طياتها إشارة إلى تراجع الاعتزاز بلغتنا العربية وقدرتها على التعبير. من الواضح أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الدراما فحسب؛ إذ كما أشرنا، هناك برامج ترفيهية وحوارية تتبع نفس النهج. فالمذيع يلقي جملًا بالإنجليزية دون تفسير أو ترجمة، وكأنه يختبر ثقافة جمهوره. لكن، هل يدرك هؤلاء أن شريحة كبيرة من المشاهدين لا تفهم تلك العبارات؟ ربما يشعر هؤلاء المشاهدون بأنهم غرباء عن شاشة كان يُفترض أن تكون لهم، لا عليهم. قد يدافع البعض عن هذه الظاهرة بحجة أنها محاولة لتقديم محتوى "عالمي" ينافس الإنتاجات الأجنبية. لكن هل "العالمية" تعني بالضرورة تهميش لغتنا الأم؟ في الحقيقة، هناك فرق كبير بين الانفتاح الثقافي وبين الذوبان في ثقافة أخرى دون وعي. إن استخدام اللغة الإنجليزية عند الضرورة يعد أمرًا طبيعيًا، شريطة أن يترافق ذلك مع تفسير أو ترجمة تراعي احتياجات المشاهد. حيث لا يتعارض مع تقديم محتوى يُبرز غنى اللغة العربية ومرونتها، بدلاً من الإيحاء بعجزها. لكن لن يتحقق ذلك إلا إذا أخذ صُنّاع المحتوى في اعتبارهم تنوع الجمهور العربي، حيث لا يتمكن الجميع من إتقان الإنجليزية وفهمها. صُنّاع المحتوى العرب أمام تحدٍّ كبير. فمن ناحية، يسعون وراء العالمية، ومن ناحية أخرى، يرغبون في الحفاظ على الهوية. لكن يبدو أن اللغة العربية هي من تدفع الثمن الأكبر. والسؤال الحقيقي هو: هل نحن على استعداد لمواجهة هذا التحدي بوعي، أم أننا سنظل نطارد "البريق العالمي" على حساب لغتنا وثقافتنا؟