سألني ذات يومٍ أحدُ المتدربين عن مصطلحين متباينين هما: القراءة السريعة (Rapid Reading)، والقراءة المتأنية (Careful Reading). وكان سؤاله يشي بحيرةٍ في أيهما أجدى إذا كان لكلٍّ منهما مَنْ يدعو إليه ويراه الصواب، فهل نستحث عينينا في القراءة أم نرخيهما؟ وماذا عساه أن يترتّب على كلٍّ منهما؟ والواقعُ أنّ تحديد الهدف هو ما يُجيب على مثل هذا السؤال، فمن ناحيةٍ أثبتت الدراساتُ العلميّة أنّ الانطلاقة في القراءة (الأداء القرائي) بمعدّل 180 كلمة في الدقيقة تُعطي نتائج أفضل في استيعاب المقروء، في حين أنّ التلكؤ في الانطلاقة يعطي استيعابًا أقل، فالفكرة المحوريّة من القراءة السريعة قبل الانطلاقة هي "تحقيق استيعاب أكبر للمقروء"، وإلا فإنّ الأمر لا يتوقف عند الأداء القرائي فحسب، فمن يقوم بعملية الأداء القرائي ومهما كان مُجوّدًا دون أن يستوعب المقروء فإنّه لم يقرأ مطلقًا، وإنما قام بمجرد أداءٍ قرائي، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ تعريف القراءة بحسب كاثرين سنو هو: "عمليّة استخلاص متزامنٍ وبناءٍ للمعنى من خلال التفاعل مع النص المكتوب" وهذا يعني ضرورة تزامن قفزات العين بين الكلمات والجمل مع إدراك المعاني، وأيُّ خللٍ في هذا التزامن، سواء كان خللاً لغويًّا (الأداء القرائي) أو إدراكيًّا (الاستيعاب) فإنّه يُحدثُ خللاً كليًّا في فعل القراءة. وعليه فإنَّ القراءة السريعة تحظى بأبعاد تعليميّة أكثر منها معرفيّة، كونها تدعم التماسك الإدراكيّ للمعاني (Coherence)، فهي تُقدّم الاستراتيجيات التي تمنح المتعلّم فرصةً لتحقيق انطلاقة يتأتَّى له من خلالها فهمًا أوسع للمقروء عبر توسيع القفزات القرائية بالتدرج من القفز من مقطع صوتي إلى آخر، ومن ثمَّ القفز من كلمة إلى أخرى، وانتهاءً بالقفز من جملةٍ إلى جملة بحيث يكون ذلك كلّه في دائرة استيعاب الإنسان الطبيعي؛ أو من خلال التصفّح (Skimming) أو المسح (Scanning) حيث يتدرّب المتعلّم على الإجابة على جميع أسئلة مستويات الفهم القرائي بعد إتمام القراءة: (الحرفي، والاستنتاجي، والتوليدي، والتداولي، والتعبيري، والناقد، والإبداعي) ما يعني أنّ الهدف الرئيس من القراءة السريعة هو (تجويد الأداء القرائي واستيعاب المقروء). ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ القراءة المتأنّية تعدُّ في حدّ ذاتها استراتيجيّةً من أجل قراءةٍ فكريّة ومعرفيّة متئدة ومتّقدة وأكثر نُضجًا لتتبع المعرفة وما وراء المعرفة أو التفكير في التفكير أثناء فعل القراءة، والمراوحة بين المعاني، بالإضافة إلى تحليل المفاهيم وتوليد الأفكار والمقترحات، وتزييل المتباينات والمفارقات والمتناقضات، والتأسيس لنصوص موازية، والأخذ بالوعي إلى نشاطٍ من التنبؤ والتخمين، والمحايثة في الألفاظ والمعاني المقروءة من أجل مكوثٍ ذهني لدراستها آنيًّا وإعادة تدويرها من جديد في صورة منتجاتٍ مقولبة من الأفكار بعد إصدار أحكام قيمية، فالأمر يشبه القيام بمضغ لقمة طعامٍ لذيذة خمسين مرة قبل ابتلاعها، أي أنّ القارئ يُبطئ القراءة بطريقة مقصودة من أجل استمتاعٍ وتأملٍ واستيعابٍ أكبر. وإني لأسمع الكثير ممن يدعونها "بالقراءة البطيئة" وإن كنتُ أحبُّ الاستعاضة عنها بمصطلح "القراءة المتأنية" أو مصطلح "القراءة العميقة" وذلك لما تنم عنه مفردة (بطيئة) من معانٍ هامشية وثانوية سلبية. بالإضافة إلى تداخلها اللفظي مع مصطلح بطء القراءة (Bradylexia). وخلاصة القول فإنَّ كلا القراءتين متشاكلتان؛ حيث تهدف كلتاهما إلى استيعاب المقروء والتفاعل معه، لكنّ السريعة منهما ولأجل مهاراتٍ تعليميّةٍ إدراكيّة تمنحنا الدُربة على قفزاتٍ أسرع ومسحٍ أوسع، في حين أنّ المتأنّية ولأجل مهاراتٍ معرفيّة وفكريّة وإدراكيَّة عميقة تمنحنا الأناة وإبطاء القفزات من أجل تدوير الأفكار والتأمل فيها وربطها ونقدها وتوليد المفاهيم بصفةٍ أكبر. وإنَّ المتأمل في قراءتنا يجد أنّنا بينهما معّاً ندندن، فنحن تارةً نلجأ إلى القراءة السريعة إذا كانت ذخائر خبراتنا ومعارفنا السابقة تُسعفنا على الاستيعاب، وتارةً أخرى لا نتأنّى فحسب، بل ربما نتوقّف تمامًا من أجل الاستيعاب، وربما يكون توقفنا من أجل العودة إلى نصوصٍ أخرى كي تُسعفنا لفكّ ترميز المقروء. أو من أجل تدوين ملاحظاتٍ بغيةَ توسيع مداركنا، ما يعني أنّ هذا التباين بين القراءتين (السريعة والمتأنية) هو في الحقيقة من تباين التنوّع لا تباين التناقض. ولذا بظني فإنّ السؤال الذي من المفترض أن يُطرح هو: متى نقرأ قراءة سريعة ومتى نقرأ قراءة متأنّية؟ والسؤال الآخر: من المستهدف بالقراءة السريعة، ومن المستهدف بالقراءة المتأنية؟ والجواب عليهما بالتأكيد سيكون فيما قُرئ سلفًا.