الفائدة العظمى لمعارض الكتب ليست اقتناء الكتب فحسب، بل الحث الذي تمارسه السياحة الثقافية في هذه المعارض على القراءة؛ فتمارس هذه المعارض بُعدًا أكثر إيجابية من الاقتناء وتحصيل الكتب. فكثيرًا ما نلحظ أنفسنا في شغفٍ أكثر للقراءة أثناء هذه المعارض وبعدها مما يجعلها تأخذ همّ الحاث أكثر من همّ التاجر الذي لا يأبه بغير الربح المادي. ولعلي أنظر إلى القراءة هنا من منظور آخر غير منظور التثقيف ألا و هو التفكير، فالقراءة تتحول من أستاذ يثقف الإنسان ويمنحه المعلومات الوافرة التي تخص الإنسان والكون إلى عملٍ جدلي مع العقل، واستحثاث التفكير، فتضحي قراءة كل كتاب بمثابة حل مسألة رياضية لأنها تساعد على إعمال التفكير، لذا فإن كل كتاب سيمنحنا فرصة التفكير بيدَ أنه لا يمكن لكل كتاب أن يمنحنا المعلومات الهامة في مجالنا، ومن هنا يصير الهمّ القرائي همًا تفكيريًا أكثر منه همٌّ معلوماتي. ومن الممكن أن يكون هذا الاستحثاث القرائي للتفكير أن يصنع لنا قراءةً منتجة؛ تتحول إلى فعلٍ إنتاجي عبر التأليف والكتابة؛ فتصير القراءة كاتبةً باعتبار ما سيكون بعدها، وهذا هو الهمّ الأكبر للقراءة الذي يتجاوز مرحلة التثقيف إلى الإنتاج الذي شرطه التفكير. وبهذا يمكن لنا أن نفسر قلة القراءة وكثرة الإنتاج، إذ إن القارئ المقل في عدد قراءاته المفكر كثيرًا فيما يقرأ سنجد نتاجه القرائي عبر الكتابة وإنتاج الأفكار أكبر بكثير ممن يستزيد من القراءة للتثقيف وتخزين المعلومات في ذاكرته، وهنا نلحظ الفرق بين الذاكرة التي تخزن لتفكر والذاكرة التي تخزن للتخزين ذاته فحسب. وحتى تؤتي هذه القراءة أُكلها من حيث الإنتاج والتفكير فإنها تتطلب من القارئ أن يرتقي في ذوقه القرائي من القراءة لأجل المتعة المعتمدة على الترفيه القرائي إلى القراءة من أجل المتعة الفكرية المعتمدة على التفكير القرائي، وهذا قد يتطلب التركيز على المؤلفات التي تمنحنا الحظ الأوفر من التفكير أثناء قراءتها؛ فهي تمارس معنا رغبة التفكير في القراءة لأن مؤلفها اعتمد على التفكير بشكل شاسع جدًا أثناء تأليفه، فالكتاب الذي يعتمد على التثقيف سيمنحنا التثقيف بينما الكتاب الذي يعتمد على التفكير في تأليفه فهو حتمًا سيعطينا منهج التفكير من خلال قراءته. وهذه الكتب المفكّرة التي تأخذنا معها في رحلة التفكير هي حتمًا تعتمد على منهج التفكير والتفلسف في تأليفها، فهي مفكّرة في ذاتها وتمنح التفكير لغيرها، وما ذاك إلا لمنهجها المنطقي الفلسفي. ومن المستحسن أن أبين هنا أن القراءة المفكرة لا يعني منها الملل والصعوبة بل إنها تفضي على القارئ مجالًا رحبًا من المتعة الفكرية واللذة التي تتضاعف حينما يرى نتاجه القرائي وتطوره الفكري باعتماده على القراءة المفكرة أكثر من اعتماده على القراءة المثقِفة، فلذتها ليست لذة الترفيه القرائي بقدر ما هي لذة التفكير القرائي، وهذا ما يجعلنا نوقن بأن القراءة المنتجة هي القراءة التي ترتهن بالتفكير لا بالتثقيف. - صالح بن سالم