كنتُ قد توقفتُ غير مرةٍ عند بيت المتنبي حيث يقول: ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ يَنعَمُ ويقول في قصيدة أخرى: تَصفو الحَياةُ لِجاهِلٍ أَو غافِلٍ عَمَّا مَضَى فيها وَما يُتَوَقَّعُ فهل كان العقل حقًّا باعثًا على الشقاء؟ وهل كان الجهل مدعاةً للصفاء؟ وأين هو من المقولة المشهورة: «أهل العقول في راحة»؟ تساؤلات وتخمينات متأرجحة في قناعاتنا بين الرويّة والانفعال وبين الموافقة والإشكال على ما يبدو، حيث تستجلب معها «لعنة الوعي» لدى الفلاسفة، فحينما يرى نيتشه أنَّ «إرادة القوّة» عبءٌ على كاهل صاحبها، فإنّه مقتنعٌ أيضًا بأنَّها سترتدُّ عليه إدراكًا للمعاناة الإنسانية وقدرةً على التغلب عليها. وهو ذات الأمر الذي جعل من سارتر مؤمنًا بأنَّ قلق الإنسان ويأسه ليسا سوى معاناةٍ لاختياراته الصحيحة وضريبةً لحريّته ومصدرًا لتحمُّله أعباء المسؤولية. والأمر نفسه من قبلُ لدى شوبنهاور في تصوراته لِ»الإرادة العمياء» حيث يُفسِّر تدافع الإنسان نحو المغريات والرغبات بأنّه ضربٌ من المعاناة والشقاء؛ إذ يغيب العقل ومعه الوعي الذي يجعلنا ندرك هذه المآلات الخائبة التي نهرب عبرها إلى الأمام دائمًا إلى حيث العدميّة والقلق والانكفاء. وعلى النقيض من ذلك يُكرِّس الشعراء لثنائيّة العقل والشقاء، فيقول البحتري: أرى الحلمَ بؤسًا في المعيشةِ للفتى ولا عيشَ إلا ما حَبَاكَ به الجهلُ ويقول عبدالله بن المعتز: وحلاوةُ الدُّنيا لجاهلِها ومرارةُ الدُّنيا لِمَن عَقَلَا أو كقول أبي البقاء العكبري محتذيًا ذات المعاني: «ما سُرَّ عاقلٌ قطُّ» ! ومع ذلك، فإذا كان التفكير هو أداة العقل الواعية التي تعمل على تحريرنا من الجهل وتضبط انفعالاتنا وتقيّد غرائزنا، فهو يتطلبُ حتمًا إعمالاً بطريقة صحيحة؛ حيث إن التفكير بطرائق صحيحة يقود إلى نتائج صحيحة، في حين أنّ التفكير بطرائق خاطئة يقود إلى نتائج خاطئة، ولعلَّها مقدمة جيدة كي نمضي بها نحو مسارات العقل بين أن يسمو بنا إلى راحة الصفاء أو أن يودي بنا إلى حُرقة الشقاء. فلم يكن الفلاسفة أبدًا ليعقدوا هذه العلاقة بين العقل والشقاء، بل آمنوا دائمًا بأنَّ السعادة دربٌ يقتضي إعمال العقل وممارسة التفكير بطريقة صحيحة؛ ولذا ربط أفلاطون بين العقل والعالم المثالي والتّأمل الفلسفي، في حين ربط أرسطو بين السعادة في كونها غاية الحياة وبين العقل في ممارساته للأخلاق الحميدة، أمَّا الفارابي فيرى في العقل ركيزة المعرفة للوصول إلى الحقيقةِ الإلهية. وإذا كان كانط لا يرى بغاية السعادة القصوى في الحياة عبر مثاليته المتعالية إلا أنّه يعتقد أنّ العقل الناقد هو ما يقودنا إلى الأخلاق. ولذلك يربط فرويد بين اللاوعي والصراعات الداخلية التي يتوه فيها التفكير وبين الشقاء. فلكي نجني من العقل الصفاء فلا بدّ له من عوامل تقوده إلى حيث التفكير الصحيح، كالعقل الناقد الذي يدور التفكير من خلاله في هيئة مُرشّحات قبولٍ أو رفض، فهو يساعد على اتخاذ قرارات صحيحة ويعمل على تجنّب المشاكل، أو أنّه يمثّل فعل مقاومة لانتقاء أو إقصاء الأفكار. ومن تلك العوامل أيضًا القدرة على حلّ المشكلات الذي يقود المرء أولَ إلى تتبع سبل المعرفة بتحديد المشكلة وتحليلها ومن ثمَّ تفكيكها وتوليد الحلول وانتقائها وتقييمها قبل الأخذ بها. ويتطلب الأمر أيضًا تحقيق التفكير المتوازن بالإضافة إلى التفكير الإيجابي اللذينِ يُقيِّمان تصوراتنا ويجوِّدان قراراتنا. ولهذا فإنّ ديكارت يرى أنّ الطريق إلى اليقين يتطلّب شكًّا منهجيًّا، وبمعنى آخر فإنّ هذا الشك المنهجي يمثِّل عاملاً لتمحيص الحقيقة، وعليه فإنَّ التسليم بعد الشك يكون أدعى إلى اليقين منه إلى التسليم مطلقًا، وهذا بالطبع ما لا ينفي معاناتنا بالشكِّ في دروبنا نحو اليقين. ومؤدّى ذلك كلِّه أنّ العقل يرتبط بالتفكير الصحيح؛ إذ ما قيمة العقل من حيث هو نعمة إلهية إذا كان سيأخذنا إلى الشقاء؟! بل وكيف لله أن يُخاطب أولي الألباب إذا كان إذعانهم سيؤول بهم إلى الشقاء؟! فالعقل ليس مصممًا لتحقيق النتائج فحسب، بل للتعامل أيضًا مع أعباء الرحلة إلى تحقيق تلك النتائج، وهنا ينبغي ألا ننسى قيمًا حميدة وساميةً تُمَّثل خير مَعينٍ للعقل مثل الحمد والصبر والرضا والعفو والتغافل والتصالح مع الذات ومع الخلق، فمآلاتها جميعًا في نهاية الأمر إلى انشراح الصدر وقبول الحياة، وقبل ذلك كلّه نيل رضا الله والجنة. ختامًا، فإنَّ أبياتَ المتنبي والبحتري وابن المعتز وغيرها لا تعدو -في نظري على الأقل- أن تكون من مواضع المعاني التي يُعبّر بها الشعراء عن أحاسيسهم وانفعالاتهم بغيةَ غايةٍ ملحّة وآنيّة في أنفسهم للتنفيس عن كُرَبهم ومشاعرهم، ولكي يكون الشعرُ في نهاية المطاف شعرًا، ولكي تتلبّس ألفاظُهُ من المعاني ما يُحدث فرقا، فما الإبداع في الشعر إلا بالخروج عن دائرة المألوف، وإلا فإنّ العقل يبقى ودون ريبٍ جالبًا للسعادة والصفاء.