انتهى سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية حاملاً دونالد ترمب إلى البيت الأبيض من جديد، بعدما حقق فوزًا ساحقًا يوم الأربعاء الماضي بهزيمته كامالا هاريس، متمًا عودة سياسية متكاملة وتاريخية تكاد تشبه ما يحدث في السينما الأميركية، بعد تغلبه على كل العراقيل التي وضعها الديمقراطيون في طريقه ونجاته من محاولتي اغتيال، غير أن اللافت هذه المرة لم يكن فوز ترمب وعودته إلى البيت الأبيض، فقد كان ذلك متوقعًا بعض الشيء في ظل أداء مخيب للآمال من جانب بايدن وإدارته على مدار أربع سنوات، بل اللافت كان عودة ترمب المذهلة كحاكم مطلق اليد بصلاحيات مطلقة، بعدما اكتسح الانتخابات الرئاسية بالمجمع الانتخابي وأصبح أول رئيس جمهوري يفوز بالتصويت الشعبي منذ عام 2004 وفاز حزبه الجمهوري بمجلس الشيوخ وها هو يقترب من حسم مجلس النواب ليضمن الكونغرس بغرفتيه إضافة للأغلبية بالمحكمة العليا، كما استطاع الرجل سحق المعارضة داخل حزبه الجمهوري وطرد من يعارضون عقيدته ليصبح الحزب فعلياً ملكاً له في طريقه لاحتكار السلطة غير المقيدة التي سيتمتع بها، حتى إن الرجل قال في حفل النصر: "لقد منحتنا أميركا تفويضًا غير مسبوق". والحقيقة أن من رسم هذا المشهد في معظم تفاصيله كان الديمقراطيون أنفسهم وبأيديهم، بعدما صنعوا باعتقادي فجوة هائلة بينهم وبين الناخبين جعلت حلفاءهم وأهم داعميهم يتخلون عنهم ويختارون رجلاً دارت الأحاديث عن محاولته قبل أربع سنوات "تدمير الديمقراطية" ببلادهم للبقاء في السلطة بعد انتخابات 2020 وتشجيع اقتحام مبنى الكابيتول، ومدان بتهم مثبتة قانونياً من تحرش جنسي وتهرب من الضرائب ورشاوى وتحريض على تعطيل الدستور وعنصرية واختلاس وثائق مهمة والتهديد بالانقلاب وحبس المنافسين، ولك أن تتخيل كيف تختار الأقليات رجلاً اقترح أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولاياتالمتحدة، وتحدث عن استخدام الجيش ضد أعداء من الداخل، وتعهد بمحاكمة المعارضين السياسيين وطرد اللاجئين الذين يقيمون بشكل قانوني في البلاد، كما لم يخفِ إعجابه برؤساء كبوتين وشي جين بينج، وأكد أن قرارات التوظيف في البيت الأبيض ستعتمد على الولاء ومن لا يعملون على تقويض أجندته من الداخل أو يعيقون قدرته على الحكم بالطريقة التي يريدها. لقد أهدى بايدن وهاريس ومن خلفهم الديمقراطيون ترمب وحزبه هذا الفوز الكاسح، ولا يمكن رد هزيمتهم إلى سبب بعينه بل لعدة أسباب تجمعت كلها لتذهب بحكمهم، رغم أن الدعم المالي الذي تلقته حملة هاريس يقارب ثلاثة أضعاف ما تلقته حملة ترمب، غير أن السياسات النيوليبرالية التي تبناها الحزب لإرضاء الداعمين الأسخياء كانت مرفوضة بالنسبة للكثيرين من الناخبين الأميركيين، نظراً لدورها في زيادة الفجوة بين الأثرياء وبقية طبقات الشعب، كما خسرت هاريس أصوات الأقليات مثل اللاتينيين والعرب بكل سهولة باحتقارها لهم وتبنيها سياسات ترمب نفسه فيما يخص قضايا بعينها كالهجرة مثلاً، كما كانت غزة وسياسات الدعم اللا محدود وهدم القيم الأميركية حين تعلق الأمر بإسرائيل وتحول خطاب الديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الإنسان إلى مثار سخرية وتندر سببًا آخر في خسارتها لعدد من الولايات المتأرجحة، وخير دليل خسارتها لولاية ميشيغان ذات الكثافة العربية والمسلمة بفارق قارب 81 ألف صوت وهي الولاية التي فاز بها بايدن قبل أربع سنوات بفارق تجاوز ال 150 ألف صوت، وقبل هذا كله كان التطرف المفرط وغير المفهوم في فرض السياسات الجندرية والموقف من "الإجهاض" و"الانحلال الأخلاقي" في العلاقات والموقف من الأسرة ومعاداة الفطرة سبباً رئيساً في دفع الناخبين للفرار من هذا الجحيم إلى من يرونه أكثر محافظة على قيم الأسرة، وأخيرًا والأهم كانت السياسات الخارجية لإدارة بايدن وتوريطه العالم في أزمات اقتصادية متتالية جراء الحروب التي تم إشعالها سواء على حدود أوروبا أو بالشرق الأوسط والتمادي فيها والتي دفع فاتورتها بالتبعية المواطن الأميركي ضرائب وغلاء وتضخماً على مدار السنوات الماضية. تأثير فوز ترمب على الداخل الأميركي الحاصل الآن أن ترمب بات سيد البيت الأبيض من جديد ولأربع سنوات قادمة بصلاحيات مطلقة وخبرة كبيرة اكتسبها من تجربته الرئاسية الأولى وما تلاها من معارك قانونية وإعلامية، فهل ستستدعي عودة ترمب وقراراته المتوقعة حدوث تغييرات جذرية تصل إلى حد إعادة تشكيل المشهد السياسي بالكامل، سواء على الداخل الأميركي وعلى مستقبل الحزب الجمهوري وأيضًا على الساحة السياسية الدولية؟ الجواب تأكيداً أنه مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض، بدأ حلفاء وخصوم الولاياتالمتحدة يستعدون لعصر جديد من سياساته وسط آمال من البعض بفوزه ومخاوف لدى آخرين، حيث سيكون ترمب أكثر ارتكازًا على قاعدة الدعم الجماهيري التي حظي بها وتعكس الولاء والتأييد له، وبذلك قد تكون الولاياتالمتحدة تستعد حالياً لاستقبال الإعلان عن تغييرات داخلية قوية قد تؤثر على النظام القانوني والحكومي الفيدرالي، كما أنه على الديمقراطيين مواجهة تحدٍ هائل يتمثل في إعادة تقييم استراتيجياتهم، بالتوازي مع انتقادات واسعة توجه الآن للحزب، إذ عليهم التفكير في كيفية استعادة ثقة الناخبين من خلال تطوير استراتيجيات جديدة تعكس تطلعات الناخبين واحتياجاتهم. وفيما يخص الاقتصاد الأميركي فلا أقدر حالياً من ترمب المشهور بتاجر الصفقات على تحسينه وزيادة نموه وإشعار المواطن الأميركي بذلك، وتحسين الميزان التجاري لصالح أميركا عبر فرض الجمارك على السلع المستوردة فضلاً عن التخفيضات الضريبية المزمع الإعلان عنها أثناء ولايته، ما يعنى زيادة الاستثمارات فضلاً عن دعمه زيادة إنتاج البترول والغاز في أميركا ما يعنى انخفاض أسعارهما، غير أن حالة الانقسام التي خفتت الآن عقب الفوز الكاسح لترمب -ولكنها كامنة ولم يسبق لها مثيل داخل المجتمع الأميركي- ليس مستبعداً عودتها حين نرى ترمب يدعو لمنحه ولاية ثالثة أو يحاول تعديل الدستور والقوانين. السياسة الخارجية وانعكاساتها على العالم يعد انتصار ترمب بلا شك انتصاراً كبيرًا لليمين حول العالم وهزيمة كبيرة لليبراليين واليسار، ولعلنا سنشهد أصداءه في الفترة المقبلة على دول أوروبا، وقد لا نبالغ في أن عودة ترمب من المرجح أن تعيد تشكيل السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا في ما يتعلق بالعلاقات مع حلفاء أميركا التقليديين، إذ هناك مخاوف من أن مواقفه قد تزيد من المخاطر الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، وقد يعكس موقف ترمب من الناتو والاتحاد الأوروبي تحولاً كبيرًا سيتطلب من الدول الأوروبية إعادة التفكير في استراتيجياتها الدفاعية وتحمل مسؤولياتها في تشكيل دفاعاتها بصرف النظر عن "الابتزاز" الأميركي الذي يميل إليه دائماً ترمب. أما أوكرانيا فلعلها مع الصين وأكبر الخاسرين من عودة ترمب، فعامة أحاديث وتصريحات ترمب كانت تلقي شكوكاً حول استمرار التزام الولاياتالمتحدة تجاه كييف مع استمرار الحرب لأكثر من عامين ونصف العام بعد غزو القوات الروسية، كما أدلى ترمب بتعليقات تشير إلى أن الولاياتالمتحدة قد تضغط على أوكرانيا لإبرام هدنة مع روسيا التي تعيش أجواء احتفالية بذهاب الإدارة الديمقراطية التي كانت وراء استمرار الحرب حتى الآن، فيما زعم ترمب مرارا وتكرارا أن الحرب بين أوكرانياوروسيا لم تكن لتبدأ لو كان رئيساً كما تعهد بإنهائها، بل قال إنه يستطيع تسوية هذا الصراع في يوم واحد. وفيما تعيش روسيا أجواء انتصار ظناً منها أنها باتت قريبة من حسم ملف أوكرانيا بمساعدة ترمب في مقابل منح ترمب طلبه بفك الارتباط مع الصين لتتفرغ أميركا لمعركتها الكبرى بمواجهة التنين الصيني، لا ترى الصين في ترمب إلا عدوًا شرسًا وذلك من تجربتها الأولى معه قبل ثماني سنوات، ولا يُتوقع إلا أن يكون أكثر تشددًا مع الصين، كونه يرى الصين التحدي الرئيس للأمن القومي الأميركي، ولعل البداية كما في الفترة الأولى من باب التجارة وفرض التعريفات الجمركية الكبيرة على الواردات الصينية، لكن الملف الأخطر سيكون في كيفية تعاطي ترمب مع مشكلة تايوان وإلى أي مدى سيذهب ترمب في الدفاع عنها أمام الرغبة الصينية الجامعة في السيطرة عليها. أما إسرائيل فالواقع باعتقادي أن ما يظهر للعلن يبدو غير ما يبطنه الساسة الإسرائيليون، فلا أظن نتنياهو أسعد الناس بفوز ترمب وإن بدا غير ذلك للجميع، ولعل نتنياهو كان يفضل هاريس ابنة "الدولة العميقة" بعيداً عن ترمب الذي يتحكم مزاجه الشخصي في قراراته، وإن كان كلا الطرفين يتنافسان على من يخدم إسرائيل أكثر من الآخر وأن الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل غير قابل للنقاش أياً من كان في الحكم، وتشير الآراء داخل المجتمع اليهودي في الولاياتالمتحدة إلى أنه رغم دعمهم التقليدي لإسرائيل، فإن النموذج السياسي لترمب قد يؤدي إلى توترات في هذه العلاقات، إذ يعتبر بعض المحللين أن أسلوب ترمب في السياسة الخارجية، بما في ذلك توجهه الانعزالي، قد يؤثر سلبًا على دعم الولاياتالمتحدة الحيوي لإسرائيل. الشرق الأوسط والحاجة لإعادة التموضع في شرقنا الأوسط ورغم الارتباط التاريخي بالولاياتالمتحدة، فلا خير كان يرجى من فوز أيّ من الطرفين، لذا فلا حزن على هزيمة هاريس التي بلا شك كانت ستستكمل كل سياسات بايدن وكافة توجهات "الدولة العميقة"، ولا فرح بقدوم ترمب الذي لن يكون أقل سوءاً من إدارة بايدن في قراراته بالنسبة للمنطقة، لذا هناك حاجة ماسة لدول المنطقة لاستكشاف سياسات جديدة تضمن تحقيق التنمية المستدامة، ومحاولة القضاء على ما تعانيه العديد من الشعوب العربية من قضايا اقتصادية واجتماعية، ويتعين عليها الابتعاد عن الاعتماد على المشروعات الغربية التي لم تتمكن من تحقيق التغيير المنشود، وكما ختمت مقالي السابق قبل أيام نحن بحاجة إلى أن نكون رقماً فاعلاً على الساحة العالمية، فالأمة القوية هي أمة مهيبة من أعدائها، ولن يتأتى ذلك سوى بوحدتنا والتكامل فيما بيننا واستغلال ثرواتنا واتجاهنا إلى التنمية المستدامة وتجنب الانحيازات المسبقة والتعامل بحذر مع التحولات القادمة وإعادة تقييم استراتيجياتنا لضمان أمن المنطقة واستقرارها. * أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية في جامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولاياتالمتحدة.