في الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم أنه جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلال فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" إلى آخر الآية. "إن الله كان عليكم رقيبًا". والآية التي في الحشر "اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله" تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة. قال: (فجاء رجل) من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مُذهبة. الحديث. أقف عند جملة واحد من هذا الحديث، وهي قوله "فجاء رجل" وكثيرًا ما تكررت هذه الجملة في السنة النبوية الشريفة، حتى إن أهل العلم بالحديث اهتموا بذكر أسماء المبهمين، وستجد ذلك في أحاديث كثيرة، كمثل قولهم وجاء رجل، فقام رجل، فقال رجل، وكم تعلمنا من المبهمين من أمور الدين، لله درهم. والوقفة هنا أن هذا الرجل الذي أفادنا بهذه الفائدة الرائعة والفضل العظيم في السنة الحسنة، والتأثير الرائع، لم يذكر في الحديث، وهو رجل من عامة المسلمين، سمع المقالة النبوية في الحث على الصدقة فبادر، ولم يحتقر نفسه وفي القوم من هم أعلى منه منزلة وأرفع شأنًا، ففيهم الشيخان، وغيرهما، رضي الله عنهم جميعًا. فالمبادرة إلى الخير وفعله لا تحتاج منا إلى انتظار الأكابر، وإن كان فعل الأكابر من وقود الأفعال والاقتداء، فكم نال من الفضل العظيم ببدء هذا الخير وفتح باب هذا الإحسان؟ لا ينبغي للمسلم أن يحقر نفسه في المبادرة إلى الخير، بل يسابق ويسارع وينافس فيه، وربما اقتدى به علية القوم، وهذا الأمر متيسر للمسلمين الذين لا يعرفهم أحد في مجالات شتى، خاصة مع تطور طرق التواصل الاجتماعية، وطرق خدمة هذا الدين والوطن، ولست أقلل من أهمية عمل الأكابر وعلية القوم، ولكن أركز على أنه بمقدور المغمور من الناس أن يحمل مشعل مبادرة يقتدي بها الأكابر، ويكون ممن سن في الإسلام سنة حسنة، وخاصة أن كثيرًا من شباب الأمة اليوم يفهم في التقنية أكثر من كهولها وشيوخها، ولعلي لا أبتعد عن المعنى حين أذكّر بما ينتشر في هذه المواقع من برامج هادفة، بمجهودات متواضعة، من غير ذوي الشهرة، أو العلم، يكون لها صدى، ومشاهدات، تفيد علما في تقنية، أو تصحح معلومة خطأ، أو تحذر من منشور سيئ، أو تدفع شبهة، أو تذب عن الوطن، وتعلي همة. وهو جهد لست أريد تقييمه ولكني أراه جميلا من شباب جميل حمل هم العمل والتغيير الإيجابي، ولو رمى هؤلاء الشباب بالتبعة على الأكابر لما كان هذا الجهد منهم. والممخضة من هذا أنك تستطيع أن تكون حاملا مشعل المبادرة التي ربما اقتدي بك من هم أعلى منك منزلة وأرفع شأنا، وقد لا يذكر اسمك، ولا يعرفك الناس، ويكون لك من الأثر في الدين والدنيا ما يعلمه الذي يعلم السر وأخفى، ولا تضيع عنده أعمال العاملين، فتجد في صحيفتك يوم القيامة أعمال المشهورين، والمؤثرين والأكابر، وتجد فيه نشاط عالم، وتعلم جاهل؛ لأنك من أشعل فتيل المبادرة فانفجرت ينابيع العطاء في القوم، وتحمسوا لها، ولولا فعلك لما فعلوا أو لتأخروا في الفعل. فاستعن بالله، ولا تعجز، فإن الغاية الكبرى قد تبدأ بمبادرة صغرى، وكل النتائج التي قد تكون عظيمة بعيدة المنال لن تدرك إلا باتخاذ قرار البدء وعدم التردد والاعتذار بالضعف أو القلة أو المكانة وغير ذلك من المثبطات. هذا، والله من وراء القصد.