قد نهاجم بعض الأفكار والمعتقدات والنظريات ثم نمارسها أو ننغمس فيها من حيث نشعر أو لا نشعر! فمما نفهمه من معنى العلمانية هو فصل الدين عن الحياة، ولهذا يحاربها المتدينون بكل قواهم، فكرا، ومقالا، ودعوة، وعملا. ولكن، لو دققت النظر في الحال لوجدته مخالفا في أحيان كثيرة للمقال!. فإن الواقع يقسم المجتمع إلى متدينين، وعوام، ويضع ما يسمى بالمطوع في بوتقة خاصة به، وبروازا معلقا في العلو لا ينبغي له أن ينزل منه، فليس من حقه ممارسة الحياة الطبيعية التي يمارسها العوام، وهم يؤمنون أن الدين الحنيف جاء ليرسم لوحتها في الأولى والآخرة! فمن المستغرب عند الكثيرين أن يكون طالب العلم، أو من يرونه من المطاوعة أن يكون له اهتمام بالرياضة مثلا، فكيف يستساغ لحافظ القرآن أن يشجع ناديا، أو يلبس غير الثياب، أو يتواصل مع الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، بله أن يرى وهو يلعب الكرة، أو غيرها مما يرونه غير لائق بالمتدين، حتى لو لم يكن طالب علم، أو عالما. ولست أدري ما القالب الذي ينبغي ألا يخرج منه طالب العلم أو (المطوع) حتى لا يفقد وقاره، أو يذهب هيبته، أو يقلل قيمته، إنه باختصار يعني أن يعيش في معزل عن الناس، كالراهب في صومعته، أو القسيس في كنيسته، أو العابد في معبده، يتميز بلباسه وهيأته وعزوفه عن دنياهم. لكنهم ألبسوا ذلك القالب لباسا إسلاميا فجعلوه محرابا، أو مسجدا، أو حلقة علمية لا يدري المعلم فيها عن حال الناس ولا يخالطهم. والذي رأيته في سيرة حبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ما يذكر، فقد رأيته يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويدخل الرجل من القوم لا يعرفه فلا يستطيع أن يفرق بينهم وبين أصحابه، لا يتميز عنهم بمجلسه، ولا بهيأته أو لباسه، فهو فرد مثلهم، وإن كانت أعناقهم تشرئب إليه، وقلوبهم تكاد تخرج من أقفاصها حبا له وأعينهم لا تكاد تنظر إليه إجلالا له ومهابة. وقد كان يستمع إليهم يتحدثون عن ماضيهم في الجاهلية، ويضحك أحدهم بين يديه، وربما استلقى الضاحك على قفاه، ويراهم يتمازحون، بل ويمازحهم، ويسابق زوجه وهو متجه للقتال، ويمر على أسواقهم ومنتدياتهم، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم. فما بال قومي يريدون من الداعية، أو طالب العلم ألا يعرف شيئا مما حوله، ولا يدري ما الحياة ولا ما الأحياء، لعمر الله إن هذا لشيء عجيب! ألا يحق (للمطوّع) أن يقرأ الصحف والمجلات ويتابع الأخبار ويقرأ التحليلات ويستمع إلى الآراء، وأن يخالط الناس ويصبر على أذاهم، ويتعرف على خدعهم وحيلهم وألفاظهم، وما أشبه ذلك؟ أليس طالب العلم إنسانا يعيش كأي إنسان آخر، له همه التجاري والعقاري والمالي والصحي والرياضي، وله أن يحب الإبل أو الخيل أو الغنم، وأن يبحث عن السرور في نزهة برية، أو بحرية، أو في سفر مباح، وشيء من المزاح؟ من قال: لا، فقد وقع فيما يحذر منه، ومن قال: بلى، فقد وفّر علينا أن نضيع وقتنا في شرح المشروح، وتوضيح الواضح. ولا يحتج بالعرف على ما أقول، فإن الأعراف تتغير وتتبدل، بحسب الزمان والمكان، وإنما الحديث عن صبغها بالدين، وجعلها من أصوله، أو من فرائضه. وقد يختصر المقال آية في كتاب الله تكررت في غير موضع "قل إنما أنا بشر مثلكم" آكل مما تأكلون وأشرب مما تشربون، وأشعر بما تشعرون، وأحب وأبغض كما تحبون وكما تبغضون، فدعوني أعيش حياتي كما تعيشون!. هذا، والله من وراء القصد.