بسم الله الرحمن الرحيم كنتُ في مكة حرسها الله في شهر شوال هذه السنة(1433ه) ومررت بصالة كبيرة مكتوب عليها(مشروع السلام عليك أيها النبي) فوقفت ودخلت إلى مقدمة تلك الصالة , ولم أكن أعلم عن المشروع إلا بعد قراءتي لما كتبه معالي الشيخ الوالد صالح الفوزان غفر الله له ثم قرأت تعقيب الدكتور ناصر الزهراني وفقه الله لهداه ودعوته لمعالي الشيخ بأن يزور ذلك المشروع, فلما رأيت اللوحات التعريفية في المشروع وقرأتها عرفت أن الكلام التعريفي للمشروع لا حاجة معه لمزيد بيان لا بالزيارة ولا بالتصوير, خاصة ما يتعلق بالمتحف الذي جاء في التعريف به ما نصه:(المتحف من أهم أقسام المشروع , وهو ذو مضمون علمي منبثق عن الموسوعة المباركة, وهو فكرة مبتكرة لم تسبق في التأريخ, وقد أخذ المؤسس على ذلك شهادات سبق علمي من عدة جهات على فكرة المتحف ومحتوياته, وقد سجل كبار العلماء إعجابهم وانبهارهم بهذه الوسيلة التجديدية التي تعنى بالشرح العملي المنظور… وتقوم فكرة المتحف على تصنيع كل ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة من أثاث وسلاح ولباس وأوان ومقتنيات , سواء كان مما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أو من عموم ما ورد في الوحي…). ولي وقفات مع هذا المتحف المزمع على إقامته مما يتعلق بأشياء المراد منها محاكاة الأواني والألبسة والسلاح وغيرها مما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : الوقفة الأولى: أنه لا فائدة عملية شرعية من جعل ذلك المتحف بل مؤداه إلى المفاسد الواجب درؤها ظاهر كما سيأتي . وبيان أنه خال من فائدة عملية شرعية أن رسولنا صلى الله عليه وسلم في نوع لباسه وأوانيه ومقتنياته هل كان قاصداً للتعبد أم أن ذلك راجع إلى عادة قومه؟ بعبارة أخرى: هل رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يتعبد ويتقرب بلبس العمامة , وإنضاج الطعام في البُرمة؟ أم ذلك راجع إلى ما كان في عهده وزمانه؟ وقبل الجواب: فإن هذه المسألة مندرجة تحت مبحث أصولي هو: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم , ومن المعلوم أن أفعاله عليه الصلاة والسلام على أقسام, ولكل قسم حكمه الشرعي, وقد تناولها علماء الأصول من قرون وأفردها بعضهم في كتاب مستقل كما فعل أبو شامة المقدسي (ت/665ه) في كتابه:(المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم). فمن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يتعبد في الإقتداء به ولا يشرع التأسي به فيه؛ لأنه راجع إلى عادة قومه الذي عاش معهم, فالعرب كانوا يلبسون العمائم, ويشربون في أواني معروفة , ويلبسون ألبسة هي من عادتهم, والرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك من باب العادة وما جرى عليه قومه لا من باب التعبد, وهذا معروف لمن كان له علم بأصول الفقه. وهذا القسم من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما كان راجعاً إلى عادة قومه على نوعين: النوع الأول: ما تختلف فيه عادة قوم عن القوم الذين أتوا بعدهم, مثال ذلك: عادة ما يلبسه أهل بلدنا(المملكة العربية السعودية) على الرأس هو الشماغ أو الغترة لا العمامة , فمن أراد التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم فليلبس لباس قومه الذين يعيش معهم, كما فعل رسولنا صلى الله عليه وسلم في لبسه للباس قومه. فمن تعبد بلبس العمامة, ولم يكن هذا من فعل قومه , وقال : ألبسها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لبسها, فيقال له: قد وقعت في محذورين: الأول: أنك خالفت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يلبس صلى الله عليه وسلم لباس قومه, وأنت لم تلبس لباس قومك. الثاني: أن فعلك هذا يدخل في لباس الشهرة الممنوع شرعاً. النوع الثاني مما كان راجعاً إلى عادة القوم: أن يوجد عند من بعدهم عادة كعادته صلى الله عليه وسلم التي يفعلها أهل زمانه, مثال ذلك: بلد إسلامي يلبس كثير من رجاله العمائم وهي عادة لهم, وبعضهم لا يلبسها, فإذا لبس العمامة رجل من أهل ذلك البلد وقال: ألبسها تأسياً, قيل له: يصح لك الاقتداء بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة , وأنت مأجور بإذن الله على ذلك التأسي, يدل لذلك : ما جاء في صحيح مسلم عن عبيد بن جريج أنه قال لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها؟ قال: ما هن؟ يا ابن جريج, قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين, ورأيتك تلبس النعال السبتية, ورأيتك تصبغ بالصفرة, ورأيتك إذا كنت بمكة أهلَّ الناس إذا رأوا الهلال, ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية, فقال عبدالله بن عمر: أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يمس إلا اليمانيين, وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها, وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها, وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يهل حتى تنبعث به راحلته. فقوله:( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها), فابن عمر رضي الله عنه تقصد لبس هذه النعال التي يلبسها بعض أهل زمانه تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم, مع أن بعض أصحابه لا يلبسها. تنبيه : لا يصح الاستدلال بمثل هذا على جواز ما حرمه الشارع، فمثلاً: لو أن أهل بلد يلبسون الحرير, فلا يقال: إلبس لباس قومك, وهذا أمر واضح بيّن . والمقصود مما مضى: أن جعل متحف يحتوي على أدوات ومقتنيات وأوان تحاكي ما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وما كان يلبسه لا فائدة عملية منه, بل لو قال قائل: سأتقرب إلى الله بالشرب في مثل ذلك الإناء الذي يماثل ما كان يشرب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هذا الإناء من أواني قومه, فقد أحدث في الدين, وتقرب بما ليس بقربة. وكذلك لو قال: سألبس العمامة تقرباً وتأسياً برسول الله عليه الصلاة والسلام وليست العمامة من لباس قومه, فقد ارتكب محرماً على ما مضى توضيحه. فإن قيل: المقصود من ذلك التعريف بما ورد في السنة فقط دون التطبيق العملي. فيقال: أولاً: أن التعريف والتعليم يحصل بدون هذا الإحداث, وذلك بجعل صورة لكيفية العمامة ذات الذؤابة في نفس الموسوعة التي قيل أنها ستبلغ 300 مجلد !! دون وضع مجسمات ومتحف بل تكون رسماً في الموسوعة , وبذلك يؤصد باب فتحه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه, ويكون على من سنَّه إثمه ووزر من عمل به إلى يوم القيامة. ثانياً : جهل العوام بمثل هذه الأمور لا ينقص من إيمانهم, وعلمهم بها لا يزيد في توحيدهم, وعليه فالفائدة التي يتكلم عنها القائمون على هذا المشروع وفي طليعته المتحف قليلة جداً إن لم تكن منعدمة . بل ذكر عدد من العلماء أصحاب البصيرة أن هذا يؤدي إلى التعلق بما حواه المتحف, وأن من العوام من سيعتقد أنها هي أواني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولباسه, والقول : بأننا نحذر الناس ونخبرهم بالحقيقة فهذا ليس بكاف لا سيما مع كثرة البدع والضلالات وانتشار الجهل, ومن رأى ما يفعله الجهال عند مقام إبراهيم عليه السلام, وجبل إلال في عرفة, وجبل النور, وغيرها من التبرك, والتمسح المحرم مع وجود من ينكر عليهم, ويبيّن لهم خطأهم , علم صحة نظر علمائنا جزاهم الله خيراً في تحريمهم لهذا المشروع, وحرصهم على عدم إقامته. ثالثاً: لو كان هذا الفعل من إقامة متحف ونحوه خيراً لسبق إليه السلف الصالح , فكم من الناس في تلك العصور لا يعرفون كثيراً مما ورد في السنة حتى من بعض أهل العلم, ومع وجود هذا المقتضي عندهم بل وتوفر الأواني التي هي أقرب ما تكون للأواني التي استعملت في عهده صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك لم يحافظوا عليها , ولم يجعلوها في مكان ليعرِّفوا الناس بها, ومن المعروف أن الخير في اتباع من سلف, والشر في ابتداع من خلف. الوقفة الثانية: هذا المتحف إن كان إقامته مما يتقرب به إلى الله فأين الدليل على مشروعيته؟ وأين المستند في جواز التقرب بمثل هذا؟ لا سيما وأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله صحابته رضي الله عنهم ولا من بعدهم من علماء القرون المفضلة, فما فوقهم محسِّر, وما دونهم مقصِّر . الوقفة الثالثة: أن كبار العلماء في هذا الزمان نصوا على حرمة إقامة هذا المتحف؛ لما يغلب على الظن من أنه يؤول إلى تبرّك وشرك وضلال, وغالب الظن معمول به في الشريعة, وذكروا أنه طريق ووسيلة للمحرم, وأن الاستمرار فيه غلط وإثم, ومن هؤلاء العلماء : معالي الشيخ الوالد العلامة الدكتور الوقور صالح بن فوزان الفوزان, وسماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز آل الشيخ, وسماحة الشيخ العلامة صالح اللحيدان, والشيخ العلامة المحدث عبدالمحسن العباد , والشيخ العلامة عبدالرحمن البراك, والشيخ العلامة سعد الحصين, والشيخ العلامة عبدالعزيز الراجحي , جزاهم الله خيراً وأمد في أعمارهم على طاعته, وحفظهم الله للإسلام وأهله. قال الشيخ صالح الفوزان غفر الله له:( هذا العمل يترتب عليه محاذير شرعية أعظمها أن هذا وسيلة للتبرك بها من قبل الجهال والخرافيين، وما كان وسيلة إلى الحرام فهو حرام على قاعدة سد الذرائع التي تؤدي إلى الشرك، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال له: أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا، ومنع من الاستغاثة به في قوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل، ولا شك أن وضع مجسمات تحاكي الأواني والمقتنيات التي كان يستخدمها النبي صلى الله عليه وسلم تؤدي على ما ذكر خصوصا في هذا الزمان الذي فشا به الجهل بالعقيدة الصحيحة وكثر فيه دعاة الضلال وخصوصا إذا وضع لذلك معرض خاص وفتح للزائرين كما ينادي به بعضهم) . وقال الشيخ صالح اللحيدان غفر الله له:(هذه الدعوة خبيثة سيئة أقل أحوالها أنها دعوة للشرك), وقال:(هذا أمر منكر). وقال الشيخ عبدالمحسن العباد غفر الله له عن هذا المتحف :( من البدع المحدثة ومدعاة لتعلق الجهال وأشباه الجهال بها، وقد يؤول الأمر إلى توهم أنها من الأشياء الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم مع أنها من البدع). وقال الشيخ سعد الحصين غفر الله له:( أن المشروع يظهر بمظهر المزار في مكة المباركة أو المدينة النبوية أو ما بينهما للحجاج والمعتمرين والزوار، تعرض فيه نماذج صناعية للباس النبي صلى الله عليه وسلم ومكاييليه وأثاثه ومقتنياته الأخرى، مما لم يهتم الصحابة بجمعه ولا حفظه ولا عرضه، وهم القدوة، وما لم يكن دينًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وآل بيته رضي الله عنهم وأرضاهم فلن يكون دينًا إلى قيام الساعة… ذكر ابن كثير والقرطبي فعل عبد الملك بن مروان في مسجد بني أمية حين ميَّز موضعًا في قبلته بسارية مميزة حفظًا لذكرى يحيى بن زكريا صلى الله عليه وسلم، وهو اليوم وثنٌ يدعى مع الله عز وجل، ويستقبله أكثر المصلين، كما يحرص الصوفية والمبتدعة على الصلاة في دكة الأغوات في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إحياء لذكرى أهل الصفة, واستقبالًا لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما بعد استحسان الوليد بن عبد الملك إدخالها في المسجد. ولما وضع ابن مروان القبة على صخرة بيت المقدس في عهد ابن الزبير رضي الله عنه (ولا ميزة لها إلا أنها قبلة اليهود) صارت أشهر من مسجد عمر رضي الله عنه، وأكثر المسلمين لا يرون أقدس منها، ولا يعرفون بيت القدس إلا بها، خلافًا لما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم… [وهذه الأمثلة أرجو أن يكون لعامليها]: نية حسنة, ولا تنفع النية الحسنة مع عمل لم يشرعه الله ولا رسوله. وقد منع عمر رضي الله عنه من كان معه من تكلف الصلاة في موضع صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما ضل من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم .) وقد ذهبت للشيخ عبد العزيز الراجحي غفر الله له حين نُشِر عنه أنه زكَّى المشروع فقال لي:( أثنيتُ على الموسوعة العلمية في السيرة فقط لم أر المجسمات, ولا يجوز فعلها ولا جعلها في متحف ونحوه ), وسئل بعد ذلك في محاضرة له فأجاب:(هذه المجسمات لها آثار سيئة : يتبرك بها الجهال في المستقبل … فالمجسمات لم أرها-يعني في زيارته للمشروع- ولا أراها). الوقفة الرابعة: قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله:(إذا أشكل عليك شيء هل هو حلال أو حرام أو مأمور به أو منهي عنه؟ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره, ونتائجه الحاصلة, فإذا كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة, كان من قسم المباح أو المأمور به, وإذا كان بالعكس كانت بعكس ذلك), ومضى الكلام على خلو الفائدة العملية من هذا المتحف, ثم إن جمعاً من العلماء نصوا على أنه يؤدي إلى الشرك والتبرك المحرم, فكان هذا الفعل محرماً باعتبار المآلات , وممنوعاً على قاعدة سد الذرائع المتفق عليها قال الطرطوشي رحمه الله:(هذا الأصل-سد الذرائع- كل من أباه في الجملة قد قال به في التفصيل). أخرج عبد الرزاق رحمه الله في مصنفه بإسناد صححه الإمام ابن تيمية رحمه الله عن المعرور بن سويد رحمه الله قال: كنت مع عمر رضي الله عنه بين مكةوالمدينة فصلى بنا الفجر فقرأ (ألم تر كيف فعل ربك), و(لإيلاف قريش) ثم رأى أقواماً ينزلون فيصلون في مسجد, فسأل عنهم, فقالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم, فقال: (إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً من مر بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليصل وإلا فليمض). الله أكبر فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه بالإقتداء به, واتباع سنته ينهى عن تقصد صلاة في مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكيف بمتحف يُنشأ لمحاكاة الأواني والألبسة التي في عهده صلى الله عليه وسلم أليس هذا أولى بالنهي؟ ولذا فإني أنصح أخوتي القائمين على هذا المشروع بوقف هذا المتحف وما دار في فلكه , والسلامة من التبعات, والبعد عن المشتبهات مطلب كل من يرجو الله والدار الآخرة, وهذا هو الظن بالإخوة القائمين على ذلك المشروع, وفق الله الجميع لما فيه رضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . كتبه/ د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء