من بركات الاجتماع أنه قوةٌ لا تعادلها قوة، ولا تُحفظُ الكرامة ولا تُحمى الحقوق إلا باجتماع الكلمة ووحدة الصفِّ، ولا تتكسَّر أطماع الحاقدين إلا على صخرة الائتلاف واللحمة الصادقة، ولا يُلجَمُ أهل الظلم والعدوان إلا جوبهوا بالاتحاد، وبناء على ذلك فواجب على المجتمع أن يتخذ اجتماع الكلمةِ عُدّةً جاهزةً لصدِّ عدوانِ المعتدين... الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه، ولو حمل نفسه على مخالفة هذه الفطرةِ لكان مستكرهاً لها، مُثقِلاً عليها، ولمّا خلق الله تعالى أبا البشر آدم عليه السلام خلق له زوجة؛ ليسكن إليها، ثم بَثَّ منهما ذريتَهما مُلهَمةً المعاملةَ والمؤانسةَ والتعاونَ على شؤون الحياةِ، ومع امتدادِ البشريةِ وانتشار الناس، وتنوع أعراقهم وأجناسهم، تطورت حاجتهم إلى التعاون في جلب المصالح ودرء المفاسد، ومع أن أهمية اجتماع الكلمة فِطريَّة لا تخطئها العقول ما لم تُغلبْ على رشدها، إلا أن اللهَ تعالى لم يَكِلْ أمرَها إلى عقول الناسِ، بل كانت بعثةُ الرسل مذَكّرةً بتلك الأهميةِ، وحاملةً مشاعلَ نورٍ إذا استضاءَ بها مجتمع تماسك وتراحمَ؛ وذلك لأن الرسل عليهم الصلوات والسلام يبدؤون بادئ ذي بدء بالدعوة إلى توحيد الله تعالى بالعبادة، ومن بركات التوحيد أن المتمسكين به تسهل عليهم الألفة؛ ويستذكرون أن إلههم واحدٌ يحبُّ فيه بعضُهم بعضاً، كما أنَّ الرسل تأتي بالإنصاف وحفظ الحقوق وترك كلِّ ما يُفضي إلى الشحناءِ، كما قال شعيب عليه السلام لقومه: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، وإذا ساد احترامُ الحقوق وكفُّ الأذى ساد الوئام واجتمعت الكلمة، واقتطف المجتمع بركاتِ ذلك، ولي مع بركات الاجتماع وقفات: الأولى: أظهر الأدلة على أن الاجتماعَ مباركٌ أن الله تعالى أمر به في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيِّه الأمينِ صلى الله عليه وسلم، وكان الأمرُ به على وجه الإيجاب وبأدلةٍ متنوِّعةٍ، والأمر به جاء صريحاً في نصوص، كما جاء في نصوص أخرى بواسطة النهي عن الاختلاف وذمِّه وتحريمه، والقاعدة الأصولية أن النهي عن الشيء أمرٌ بضدِّه، ومن النصوص الجامعة بين الأمر بالاجتماع والنهي عن الافتراق قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ" متفق عليه، وجاء التحذير من مفارقة الجماعة وتغليظ عقوبتها في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"، متفق عليه، وإذا كان الاجتماع بهذا القدر من الوجوب الشرعيِّ فلا شكَّ أنه مباركٌ؛ لأن امتثال أمرِ الله تعالى واجتناب نهيه فيه سعادةُ الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم بمصالحِ عبادِه، فما ألزمهم به من السلوك فهو محض المصلحة، ومع أن مصلحة الاجتماع ملموسة معقولة، فمن التزم بقواعده، ولزم جماعة المسلمين مستحضراً نية امتثالَ أمر اللهِ تعالى أثيب على ذلك. الثانية: من بركات الاجتماع أنه قوةٌ لا تعادلها قوة، ولا تُحفظُ الكرامة ولا تُحمى الحقوق إلا باجتماع الكلمة ووحدة الصفِّ، ولا تتكسَّر أطماع الحاقدين إلا على صخرة الائتلاف واللحمة الصادقة، ولا يُلجَمُ أهل الظلم والعدوان إلا جوبهوا بالاتحاد، وبناء على ذلك فواجب على المجتمع أن يتخذ اجتماع الكلمةِ عُدّةً جاهزةً لصدِّ عدوانِ المعتدين، والدنيا تعجُّ بالظَّلَمةِ، ولكلٍّ وسيلتُه الخاصّة به، والدفع في صدورهم يستدعي تكاتفاً ويقظةً، وصدق من قال: وَمَنْ لَمْ يَكُن ذا ناصرٍ عِنْدَ حَقّهِ ... يُغَلَّبْ عَلَيْهِ ذو النّصِيرِ ويُضهَدِ وفي كثرَةِ الأيدي عن الظُّلمِ زاجرٌ ... إذا حَضَرَتْ أيدي الرّجالِ بمَشْهَدِ وبالمقابل فالافتراقُ ضعفٌ لا يُوجد له ما يجبره، ولا يُوجد علاجٌ يمكن أن يلجأ إليه من ابتلوا بالشقاق والخلاف إلا بالرجوع إلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وإذا تمادوا فالفشل مصيرهم بلا شك، والله تعالى يقول: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). الثالثة: الأخلاق المباركة الحميدة لا يتجرأ تاركوها على التقليل من شأنها ولا مدح ضدها مباشرةً؛ لاتفاق الناس على حسنها، وذلك كالشجاعة والأمانة، فالجبان لا يتجرأ على أن يقول: الشجاعة قبيحة والجبن جميل، لكن يلتوي ليبرر الجبن بطرق خفية، والخائن لا يدعي قبح الأمانة وحسن الخيانة، لكنه يُلبس الخيانة أثوابَ زورٍ يتملص بها من قبحها، وهكذا يُقالُ في الاجتماع والفرقة، فالاجتماع محمودٌ بلا خلاف، والفرقة مذمومةٌ بلا خلاف، والمفسدُ لا ينهى عن الاجتماع مباشرةً، ولا يمدح التشتت والتشرذم مباشرة؛ لعلمه أن الفطرةَ تكذبه، لكن له طرق كثيرةٌ يأتي الناسَ من خلالها، وبذلك يُوهمُ من يغترُّ به أنه يلتمس مصالح أخرى أرجح من الاجتماع، وهذا مكرٌ كُبَّارٌ؛ فالافتراق فشلٌ وذهابٌ للنعمة، وهو ينطوي على محض المفسدةِ، وفيه تضحيةٌ بالمصالح العليا العامةِ، ومساسٌ بالضروريات الكبرى التي لا يُقدَّمُ عليها غيرها، وهي الدين والنفس والعقل والمال والعرض، فمن سوَّق الاختلاف على أنه مصلحةٌ كمن سوَّق السّمَّ على أنه علاج.