إن قيام إيران ببيع أدواتها الخارجية من عُملاء ووكلاء ومُرتزقة يتماشى تماماً مع منطق السياسة الدولية، ومفاهيم العلاقات الدولية، الهادفة في أساسها للمحافظة على المصالح الوطنية، وتعزيز المكانة والنفوذ السياسي والأمني للدولة، حتى وإن تطلب الأمر التضحية بالأدوات القديمة والمُساومة عليها لتحقيق مصالح مستقبلية، وهذا الذي فعلته إيران.. إيران الدولة، مثلها مثل بقية دول العالم، تسعى لتحقيق تطلعاتها وأهدافها السياسية على المستويات الداخلية والخارجية، وبما يضمن بقاء نظامها السياسي قوياً ومتماسكاً، وبما يجعل منها قوة نافذة إقليمياً ومؤثرة عالمياً. فإذا كانت هذه الأهداف تتشارك فيها الدول بشكل عام، فإن إيران بصفتها إحدى القوى الإقليمية المُتنافسة في منطقة الشرق الأوسط بما تملك من إمكانات وقدرات داخلية، ونظام سياسي قادر على فرض سلطته وبسط نفوذه على امتداد أراضيه، تسعى بالضرورة – مثلها مثل غيرها من القوى الإقليمية – لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية بالطرق والأساليب والأدوات التي تمكنها من تحقيق أهدافها وغاياتها. وفي سبيلها لتحقيق هذه المكانة الإقليمية والدولية، عملت مُنذُ وصول الخُميني للسلطة على خلق أدوات خارجية تمكنها من تنفيذ سياساتها الخارجية المتمثلة بتعزيز نفوذها ومكانتها الإقليمية والدولية على حساب الدول العربية بشكل عام، والدول العربية في المنطقة الآسيوية بشكل خاص. وانطلاقاً من هذه السياسة الخارجية التي تبناها الخُميني، عمل النظام السياسي الإيراني على صِناعة عُملاء ووكلاء ومرتزقة في مختلف الدول العربية ليمكنوها من تنفيذ سياساتها الخارجية. وبناءً على هذه الاستراتيجية المتمثلة بصناعة أدوات خارجية تابعة للنظام الإيراني، استطاعت – عاماً بعد عام – صِناعة عدد من الأدوات العميلة التابعة، والوكلاء التابعين، والمرتزقة المؤيدين، لها في عدد من الدول العربية، ومن تلك الأدوات "حزب الله" في لبنان، وجماعة "حماس" في الأراضي الفلسطينية، وجماعة "الحوثيين" في اليمن، والميليشيات المسلحة في العراق، بالإضافة لبعض العمليات التخريبية والتدميرية في بعض المناطق العربية التي نفذتها العناصر العميلة للنظام السياسي الإيراني. نعم، لقد نجحت السياسة الإيرانية في صِناعة أدوات عميلة تستخدمها في تنفيذ سياستها الخارجية الهدامة والتخريبية تجاه المنطقة العربية، والتي نجحت بالفعل حيث تمكنت من زعزعة أمن وسلم واستقرار دولة لبنان عن طريق عملائها في "حزب الله"، وفي الأراضي الفلسطينية عن طريق عملائها في "حماس"، وفي دولة اليمن عن طريق جماعة "الحوثيين"، وفي دولة العراق عن طريق عملائها المتمثلين ب "الميليشيات المسلحة" والأحزاب الطائفية. وبناءً على هذه السياسة التخريبية والهدامة التي تبناها النظام السياسي الإيراني، استطاعت إيران من تعزيز نفوذها السياسي والأمني والعسكري في المنطقة العربية وعلى حساب الأمن القومي العربي الذي تزايدت مصاعبه السياسية والأمنية والعسكرية، بالإضافة للاستنزاف الاقتصادي والمالي والمادي والتنموي المُستمر مُنذُ أربعين عاماً. وهذه النجاحات الإيرانية التي حققتها عن طريق عُملائها وأدواتها على حساب الأمن القومي العربي ساعدتها كذلك على تشويه صورة المواطن العربي، والثقافة العربية، والدول العربية، في نظر الرأي العام الدولي عندما يتم تصديرهم واستعمالهم وتوظيفهم لضرب المصالح الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، بالإضافة لوضعهم في المواجهة المُباشرة مع إسرائيل سواءً سياسياً أو أمنياً أو عسكرياً. نعم، هكذا هي سياسة إيران الخارجية حيث التدخل المُباشر بالشؤون الداخلية للدول العربية من خلال عُملائها وأدواتها الخارجة عن القانون، وهذه هي المكانة الإقليمية المُتصاعدة التي حققتها إيران، بعد أن كانت معزولة دولياً ومحدودة العلاقات الخارجية، حيث امتد نفوذها السياسي والأمني والعسكري في خمس مناطق عربية ابتداءً من بيروت، وصنعاء، وبغداد، ثم دمشق، وانتهاء بالأراضي الفلسطينية. فإذا كان هذا هو واقع الحال في وقتنا الراهن، فما الذي تتطلع له إيران مستقبلاً بعد أن حققت أهدافها وغاياتها السياسة المتمثلة بتعزيز مكانتها ونفوذها الإقليمي؟ بمعنى آخر، إذا كانت إيران نجحت في المرحلة الأولى المتمثلة بتعزيز نفوذها السياسي والأمني والعسكري على حساب الأمن القومي العربي، فما المرحلة الثانية التي تتطلع لها إيران؟ إن طرح مثل هذه التساؤلات يتناسب تماماً ومنطق السياسة الدولية وتعاملاتها، ومفاهيم العلاقات الدولية وتفاعلاتها. نعم، فإيران، مثلها مثل بقية دول العالم، تغير سياساتها وأدواتها بما يتناسب والاستراتيجيات التي تتبناها والأهداف التي تتطلع لتحقيقها. فبعد أن تمكنت استراتيجيتها – في المرحلة الأولى المُمتدة لأربعة عقود – من تعزيز مكانتها السياسية والأمنية والعسكرية، ومد نفوذها، في عدد من المناطق العربية، تبنت استراتيجيتها – في المرحلة الثانية ابتداءً من 7 أكتوبر 2023م – أهدافاً جديدة وغايات مختلفة تماماً عما كانت عليه في استراتيجيتها الأولى والتي تتمثل في تحسين صورتها في نظر الرأي العام الدولي، وتنويع علاقاتها الدولية، والسعي للاعتراف الدولي بمكانتها الإقليمية وبنفوذها في المناطق التي توجد فيها. نعم، إنها سياسة جديدة تتطلع من خلالها إيران لأن تكون دولة طبيعة في المجتمع الدولي، ودولة مسؤولة أمام القانون الدولي، ودولة مقبولة ومتعددة العلاقات الدولية. فإذا كانت هذه هي الاستراتيجية الجديدة التي تتبناها السياسة الخارجية الإيرانية، فكيف يمكن أن تحققها خاصة وأن ماضيها يتناقض تماماً مع تطلعاتها؟ إن الاستراتيجية الجديدة التي تتبناها إيران في سياستها الخارجية تتطلب منها الانقطاع التدريجي والمُتسارع مع استراتيجيتها السابقة، والعمل التدريجي والمُتسارع مع استراتيجيتها الجديدة الهادفة لجعل إيران دولة طبيعية ومسؤولة ومقبولة في المجتمع الدولي. وهذه الاستراتيجية الجديدة تتطلب، من صانع القرار الإيراني، اتخاذ قرارات سياسية صعبة وصارمة في الوقت نفسه، خاصة تجاه تلك السياسات التي جعلتها دولة معزولة ومنبوذة دولياً، وخارجة على قواعد القانون الدولي. وبما أن صانع القرار الإيراني يعلم ماذا يريد، ويدرك الأهداف المبتغاة، فقد قرر التخلي تدريجياً عن الأدوات التي استخدمها لتنفيذ سياساته الخارجية خلال المرحلة الأولى، مع إعلان التبرؤ منها ضمنياً، وذلك سعياً لإثبات تغير توجهاته وسلوكياته، ورغبةً في تسريع اندماجه وقبوله وتحسين صورته في المجتمع الدولي. نعم، قد يظهر أنها قرارات صعبة، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للدول، وإيران إحدى هذه الدول التي قررت التخلي عن أدواتها وعملائها، وخاصة في لبنان ممثلاً بالابتعاد عن "حزب الله" وعناصره المنبوذة دولياً، وكذلك قررت التخلي عن أدواتها وعملائها في الأراضي الفلسطينية ممثلاً بجماعة "حماس" وقادتها العسكريين المطلوبين دولياً، وستستمر هذه السياسة الإيرانية حتى تشمل عدداً من الجماعات المُسلحة والعملية لها في الوطن العربي. وإذا كانت هذه السياسة الإيرانية الجديدة تثبتها السلوكيات والممارسات، فإن التصريحات الصّادرة عن المسؤولين الإيرانيين تثبت ذلك وتؤكده. ومن تلك التصريحات ما أوردته "فرانس 24" في 9 أكتوبر 2023م في خبرها الذي جاء فيها، الآتي: "نفت طهران الاثنين ضلوعها في العملية المباغتة التي شنتها حركة حماس ضد إسرائيل، وأكدت عبر تصريح للناطق باسم وزارة الخارجية أن اتهامها بذلك يستند إلى دوافع سياسية. وأكد المسؤول أن بلاده لا تتدخل في قرارات الدول الأخرى، بما فيها فلسطين، مضيفاً أن لمقاومة الشعب الفلسطيني القدرة والقوة والإرادة اللازمة للدفاع عن نفسها والدفاع عن أمتها ومحاولة استعادة حقوقها الضائعة.... (كما) وأكدت بعثة إيران الدائمة لدى الأممالمتحدة ... أن طهران ليس لها دور في الرد الفلسطيني، تعقيباً على تقارير نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية."، وتأكيداً لهذا الموقف، أوردت سكاي نيوز عربية، في 10 أكتوبر 2023م، خبراً أكثر أهمية حيث جاء فيه، الآتي: "نفى المرشد الإيراني علي خامنئي ضلوع طهران في العملية التي شنّتها حركة حماس ضدّ إسرائيل السبت...، وقال خامنئي: "إن إيران غير منخرطة في الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل مطلع الأسبوع."، وتأكيداً لهذه التوجهات الإيرانية بالابتعاد عن جماعة حماس، جاء تصريح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي أوردته RT، في 23 سبتمبر 2024م، ليؤكد التوجهات السياسية والسلوكية الجديدة التي تبعد إيران كثيراً عن "حماس" وحزب الله"، ومن ذلك ما تضمنه الخبر، وجاء فيه الآتي: "أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، لدى وصوله إلى نيويورك للمشاركة باجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن رسالة الجمهورية الإسلامية الإيرانية للعالم هي "الأمن والسلام". وشدد على أنه يحمل رسالة السلام والأمن من إيران وتحقيق شعار العام لمنظمة الأممالمتحدة المبني على السلام والمستقبل المقترن بالتنمية لكل الشعوب. وأضاف: "بدلاً عن الحرب وسفك الدماء والقتل يجب أن نصنع عالماً يعيش فيه جميع البشر براحة بمنأى عن اللون والعرق والقومية ومنطقة العيش". وتتأكد هذه التوجهات السياسية بما ذكره الرئيس الإيراني في خطابه أمام المناقشة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي أورده موقع أخبار الأممالمتحدة، في 24 سبتمبر 2024م، وجاء فيه، الآتي: "أكد إمكانية تحقيق السلام الدائم عبر هذه الآلية، "ليعيش المسلمون والمسيحيون واليهود جنباً إلى جنب في أرض واحدة في سلام بعيداً عن العنصرية والفصل العنصري..."، وقال إنه "سيعمل على وضع أساس قوي لدخول إيران مرحلة جديدة لتقوم بدور فعال وبنّاء في النظام العالمي المتطور". وأضاف "هدفي هو معالجة التحديات والعقبات القائمة مع هيكلة علاقات بلدي الخارجية إدراكاً لضرورات ووقائع العالم المعاصر". وفي الختام من الأهمية القول إن قيام إيران ببيع أدواتها الخارجية من عُملاء ووكلاء ومُرتزقة يتماشى تماماً مع منطق السياسة الدولية، ومفاهيم العلاقات الدولية، الهادفة في أساسها للمحافظة على المصالح الوطنية، وتعزيز المكانة والنفوذ السياسي والأمني للدولة، حتى وإن تطلب الأمر التضحية بالأدوات القديمة والمُساومة عليها لتحقيق مصالح مستقبلية، وهذا الذي فعلته إيران. نعم، إن النظام الإيراني يمر بمرحلة تحول تدريجية في توجهاته وسلوكياته السياسية التي يتطلع من خلالها للابتعاد والانفكاك من سلبيات التوجهات والسلوكيات القديمة حتى يتمكن من الاندماج تدريجياً في المجتمع الدولي، ويكون مقبولاً في الساحة العالمية، وهذا حتماً سيكون على حساب العُملاء والمُرتزقة الذين خانوا أوطانهم. نعم، إنها سياسة ظاهرة ومتكررة عبر التاريخ السياسي، بحيث أن إدراكها لا يتطلب المعرفة السياسية الدقيقة، وإنما يبصرها الكثير من العامة، ويتوقعها بخبرتهم البسطاء.