إن التعبئة السلبية للرأي العام حتى يصبح منفصلاً عن مجتمعة وحكومته ونظامه السياسي مسألة يمكن ملاحظتها ومشاهدتها في وقتنا الراهن، سواءً على المستويات الإقليمية أو العالمية، لتعبئة الرأي العام تدريجياً حتى يصبح تابعاً للمُستعمر، ومُزعزعاً لأمن واستقرار مجتمعه، ومُنفصلاً عن نظامه وقادته.. تسعى القوى الإقليمية والعالمية لتعزيز مكانتها السياسية في المجتمع الدولي، وهذه المكانة السياسية تتمثل في الارتقاء بمكانتها من أن تكون مُنافساً إقليمياً لدول إقليمية أخرى إلى أن تكون القوة الرئيسة والمسيطرة في الإقليم أو المنطقة المُمتدة في جوارها الجغرافي، ومن أن تكون منافساً عالمياً لدول عالمية أخرى إلى أن تكون القوة الرئيسة والمسيطرة على المستوى الدولي أو العالمي، ولتتمكن هذه القوى الإقليمية والعالمية من تحقيق هذه الأهداف الكُبرى في سياساتها، فإنها تعمل على توظيف أدواتها الصحيحة والمناسبة بما يساهم مساهمة مُباشرة في تحقيق النجاحات المنشودة، وهذه الأدوات التي تستخدمها وتوظفها القوى الإقليمية والعالمية تتعدد وتتنوع بحسب قدرات وإمكانات كل قوة من هذه القوى الدولية، فهناك قوى تستخدم الأدوات الصَّلبة وذات التأثير المباشر والسريع مثل القوة العسكرية، إلا أن تكلفتها عالية جداً، أو أن نتائجها قد تكون سلبية أو عكسية مما يؤدي لتبعات سلبية على المجتمع والدولة، وهناك قوى توظف الأدوات الناعمة وذات التأثير البطيء أو غير الملموس على المدى القريب أو المتوسط مثل الأدوات الثقافية بمختلف مستوياتها الأدبية والفنية والرياضية واللغوية والتعليمية، وتكلفتها بسيطة أو متوسطة، ونتائجها غالباً تكون إيجابية على المجتمع والدولة، فإذا أخذنا هذين النموذجين من نماذج الأدوات السياسية التي تستخدم للتدليل على سعى القوى الإقليمية والدولية لتعزيز مكانتهما الإقليمية والدولية بما يتوافق وقدراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك يعتبر أمراً معلوماً ومفهوماً للمجتمعات والدول، على امتداد التاريخ وحتى عهد قريب، بغض النظر عن قبوله من عدمه. أما إذا أردنا أن نبتعد قليلاً في وقتنا الراهن عن هذين النموذجين من نماذج الأدوات السياسية التقليدية في مستوياتها الصلبة ومستوياتها الناعمة، فإننا نجد أنفسنا أمام أدوات سياسية نوعية في فكرتها وأسلوبها وطريقة توظيفها ومستوى تنفيذها حيث استطاعت تحييد التوظيف المباشر للأدوات الصلبة في كثير من الأوقات، وكذلك استطاعت إحداث نقلة متقدمة جداً في الأدوات الناعمة لتجعلها مرتبطة بالتقنيات الحديثة والتطور الكبير في مجالات الاتصالات والتكنولوجيا المتقدمة. نعم، لقد عملت القوى الإقليمية والعالمية على تطوير استراتيجياتها وأدواتها السياسية بما يتماشى مع التطور والتقدم الكبير جداً في مجال التقنية والتكنولوجيات والاتصالات بهدف تحقيق أهدافها العليا المتمثلة بتعزيز مكانتها الإقليمية أو العالمية بتكلفة مناسبة وخطوات مدروسة لتحقيق نتائج عالية جداً. وعلى خلاف الأدوات السياسية التقليدية الصلبة والناعمة ذات الأهداف الواضحة للآخر، أو ذات النتائج المُعلنة بسلبياتها وإيجابياتها، فإن الأدوات السياسية النوعية الجديدة ذات الوسائل التقنية والتكنولوجية أهدافها ليست واضحة للآخر، ونتائجها غير الظاهرة مأساوية على أمن وسلم واستقرار المجتمعات، وغاياتها العودة لعصور الاستعمار للأوطان والاستعباد للشعوب. نعم، إن للأدوات السياسية النوعية أو التقنية وسائل وأساليب وطرق أهدافها المتوسطة زعزعة استقرار المجتمعات من داخلها وبأيدي أبنائها، وغاياتها البعيدة استعمار تلك الأوطان وسلب خيراتها وثرواتها واستعباد الشعوب الأخرى وتسخيرها لخدمة مشروعاتها التوسعية وتعزيز نفوذها الإقليمي أو العالمي، وذلك من خلال تعبئة الرأي العام تدريجياً في المجتمع أو الدولة المستهدفة ليصبح - من غير إدراك - مُنقاداً لسياساتها وتوجهاتها، ومُنفذاً لأهدافها، على حساب أمن وسلامة واستقرار مجتمعه، حتى يكون جاهزاً للاستعمار والاحتلال المباشر، أو غير المباشر عن طريق العُملاء والمرتزقة. نعم، إن الأدوات السياسية النوعية أو التقنية في وقتنا الراهن تقوم بشكل أساسي على استخدام أو توظيف التطور التقني والتكنولوجي الكبير في مجالات الاتصالات ونقل المعلومات بهدف الوصول والتأثير السلبي وقيادة الرأي العام في المجتمع والدولة المُستهدفة ليقوم بتدمير مجتمعه ودولته لحساب القوة الإقليمية أو العالمية القائمة بالاستهداف، وهي بذلك تختلف عن الأدوات الناعمة في مستوياتها التقليدية الهادفة لنشر الثقافة والحضارة وخدمة التجارة والاقتصاد والقيم في المجتمعات الأخرى. نعم، إننا أمام منهج جديد من مناهج التأثير السياسي حيث توظيف التقنية والتقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات ونقل المعلومات بشكل سلبي لتصبح أداة فعالة من أدوات السياسة الخارجية التي تستخدمها القوى لمد نفوذها وتعزيز مكانتها الإقليمية أو العالمية. وهذه الأداة التقنية تقوم في أساسها على استخدام التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات ونقل المعلومات لتوجيه رسائل عميقة في أهدافها وغاياتها، وعاطفية في لغتها وأسلوبها، ومؤثرة في قيمها ومبادئها، للتأثير في توجهات وأراء وأفكار أبناء المجتمع المستهدف. وهذه الرسائل الموجهة بعناية للمجتمع المستهدف تكون متتابعة في الإرسال، ومتكررة في اللغة، ومؤكدة على القيم والمبادئ، ومركزة على التأثير العاطفي، ومخاطبة للقلوب والمشاعر، وموجهة بشكل أساسي للأجيال الناشئة لأن أهدافها بعيدة المدى. وحيث إن الرأي العام يتميز بعدم معرفته الدقيقة بما تعمل عليه المجتمعات والدول، بالإضافة لسهولة تأثره بالخطابات والشعارات العاطفية التي تحاكي القلوب وتغيب العقول والمنطق، فإن تلك الرسائل الموجهة بكثافة واحترافية عالية تتمكن تدريجياً، بما تحمله من أفكار وتوجهات وأراء، من التأثير على أفكار وتوجهات الرأي العام في المجتمع المستهدف، وهذا التأثير الحاصل تدريجياً على الأفكار والتوجهات والآراء لدى الرأي العام في المجتمع المستهدف يتحول تدريجياً حتى يصبح قناعات وحقائق مسلمٌ بها وغير قابلة للنقاش أو التكذيب أو التساؤل حولها، ما يعني تحقق الهدف المنشود والغاية النهائية بفصل المجتمع عن محيطة وحكومته ونظامه وجعله تابعاً للقوى الإقليمية أو العالمية السَّاعية للتوسع وتعزيز نفوذها الإقليمي أو العالمي. نعم، إن التعبئة السلبية للرأي العام حتى يصبح منفصلاً عن مجتمعة وحكومته ونظامه السياسي مسألة يمكن ملاحظتها ومشاهدتها في وقتنا الراهن سواءً على المستويات الإقليمية أو العالمية، ومن ذلك سعي بعض القوى الإقليمية ذات التوجهات التوسعية للتأثير على الرأي العام في المجتمعات الإقليمية المجاورة من خلال تكثيف وتكرار رسائلها السياسية عبر تقنيات الاتصالات الحديثة لتمجيد تاريخها وقادتها ورموزها وحضارتها وثقافتها وصلابتها في وجه الأعداء، في مقابل تشويه تاريخ وقادة ورموز وحضارة وثقافة المجتمعات المستهدفة وتواضع تقدمها وتطورها. وكذلك على المستوى العالمي نجد بعض القوى العالمية ذات التوجهات التوسعية تسعى للتأثير على الرأي العام في المجتمعات المستهدفة من خلال تكثيف وتكرار رسائلها السياسية عبر تقنيات الاتصالات الحديثة لتسويق أيديولوجيتها وثقافتها وحضارتها وقيمها وتقدمها التقني والتكنولوجي والصناعي ونظامها السياسي وهيمنتها العالمية، في مقابل تشويه رموز وقادة وسياسات ونظم وقيم المجتمعات المُستهدفة. وفي الختام من الأهمية القول إن على المجتمعات، الإقليمية والعالمية، الحَذر من الاستهداف المُمَنهج الذي تقوم به القوى التوسعية، عبر الأدوات التقنية المتقدمة وتكنولوجيا الاتصالات ونقل المعلومات، لتعبئة الرأي العام تدريجياً حتى يصبح تابعاً للمُستعمر، ومُزعزعاً لأمن واستقرار مجتمعه، ومُنفصلاً عن نظامه وقادته. نعم، إنَّ على المُجتمعات السَّاعية للتطور والتقدم، والهادفة لتعزيز مكانتها الإقليمية والعالمية، أن تُطور أدواتها السياسية بما يتماشى والتقدم التقني والتكنولوجي، وإلا ستكون عُرضة للاستهداف المُمنهج من قِبل أعدائها القريبين والبعيدين، والظاهرين وغير المعلومين.