قبل قرابة عقدين من الزمن، وبحكم عملي آنذاك في الصحافة الثقافية، كانت تجمعني بعدد من المبدعين الصاعدين في مجال الكتابة القصصية والشعر والرواية لقاءات دورية نتحدث فيها عن الحراك الثقافي ومنشورات الساحة الأدبية وآخر إنتاجاتهم في مجال الإبداع الكتابي، كان الجميع دون استثناء يربط بينهم شغف مذهل تجاه مواهبهم، ورغبة جامحة في تطويرها إلى أقصى حد، كانت حياتهم تتمحور حول موهبتهم وهاجسهم في التألق والنجومية. اليوم وبعد هذه السنوات الطوال أخذت أتأمل تلك التجارب والأسماء والمواهب الفذة التي كنت أعرفها فوجدت إنتاجهم الإبداعي قد ذبل تماما، والأغلب منهم يعزو ذلك لارتباطات الحياة اليومية وعلى رأسها الوظيفة التي أخذت تقتات على الوقت والاهتمام والجهد حتى استهلكت معظمه ولم تبق في أدمغتهم المزدحمة بمتطلبات العمل، تلك المساحة البيضاء التي يزدهر فيها الإبداع. تذكرت وأنا أتأمل أصدقائي المبدعين المعتزلين مقالة نشرها الكاتب والسيناريست الراحل مصطفى محرم قبل عدة أعوام بعنوان "نجيب محفوظ والوظيفة"، تحدث فيها عن معاناة المبدع مع التوفيق بين موهبته وتكريس وقته لها، وبين الوظيفة التي تدر عليه دخلا يقتات منه، وذكر فيه أن نجيب كان يمقت الوظيفة ويراها قيدا وعدوا لدودا للمبدع، وعندما سئل عن حاله مع الوظيفة قال: "إنه لا يستطيع أن يكتب شيئًا، ويشعر بأنه ميت، كان ينتظر بفارغ الصبر مرحلة التقاعد". نجيب محفوظ ليس المبدع الوحيد الذي كان يعاني من قيد الوظيفة، إذ تعد هذه متلازمة يعاني منها كثير من المبدعين، خصوصا من يشتغلون بالإبداع الكتابي مثل الرواية والشعر، لأنها لا تدر عائداً مادياً مجزياً مثل حقول الإبداع الأخرى، كالرسم، والغناء، والتمثيل، وغيرها؛ وبالتالي فهم في الغالب، مضطرون للعمل في وظيفة قد لا تتسق مع موهبتهم الأدبية؛ فالكاتب الإنجليزي جورج أورويل، على سبيل المثال، اضطر للعمل كمدرس وصحفي لسنوات قبل أن يتمكن من التفرغ للكتابة، وعندما تفرغ، أنتج أعمالًا خالدة مثل رواية "1984" و"مزرعة الحيوان". ولذلك تسعى الجهات المسؤولة عن رعاية المبدعين في بعض الدول إلى المحافظة على وهج الإبداع وإبعاد الحاجة المادية عنه، فمثلا الحكومة الفنلندية أدركت أهمية هذا الجانب، وبدأت في تطبيق نظام يتيح للمبدعين أخذ إجازات مدفوعة الأجر للتفرغ لمشاريعهم الفنية والثقافية. الأمر ذاته يظهر في المبادرات التي تقوم بها المؤسسات الثقافية في العديد من الدول، حيث نجد أن مؤسسات مثل مؤسسة "غوته" في ألمانيا أو "المجلس الثقافي البريطاني" تمنح برامج إقامة مدعومة للفنانين والكُتاب لتوفير ببيئة مناسبة للإبداع تخرجهم من قيود متطلبات الحياة اليومية. أعتقد أن المؤسسات الثقافية جديرة بأن يكون لديها مبادرات مثيلة تكرس حياة المبدع لإبداعه دون أن تأخذه الوظيفة منه، ونظرا لأن مشروعا مثل هذا يتطلب ميزانيات عالية فبالإمكان البدء بعدد محدود جدا من المبدعين الذين يتمتعون بموهبة فذة استثنائية تستحق أن يستثمر فيها الوطن للمستقبل.