في فترة من فترات حياتي كنت محاطاً بعدد لا بأس به من المبدعين، بين كاتب وقاص وروائي وشاعر وغيرهم، كان التنافس بينهم على أشده، الجميع يعرض إنتاجه الأدبي على أقرانه ليستطلع آراءهم وربما لينال بعض المديح أو النقد الذي قد يحسن من أدائه. وعندما كنت أعمل في القسم الثقافي بجريدة "الرياض"، كان لا يكاد يمر عليّ أسبوع دون أن أتلقى مكالمة من أحد القراء يحاول نشر إنتاجه الأدبي، أو أن يجد من يوجهه لتتحسن كتاباته، كانت صفحة "أدب الجمعة" في هذه الصحيفة تضج بالمبدعين الصغار ومنها تخرج أدباء وأسماء مرموقة في عالم الإبداع. إلا أن هذه الموجة من الاهتمام بالإبداع الكتابي تحديداً خفتت بشكل كبير، أصدقائي الكتّاب الذين أعرفهم تكلست مواهبهم وبهت إنتاجهم، لم أعد أسمع منهم حديثاً حول أوزان الشعر أو نقاشات تتناول حبكة رواية أو أتلقى قصاصات من سردهم، أصبحوا يتحدثون عن مشاريعهم في العمل ومؤشرات الأداء وهموم الوظيفة والوقت الذي يتسرب من بين أيديهم كالزئبق. الانخراط الكامل في الوظيفة خصوصاً عندما لا يكون لها علاقة بموهبة الشخص الإبداعية يسرقه منها تماماً، جسده منهك من ساعات العمل الطويلة وقدراته الذهنية مستنزفة إلى الحد الذي تصبح فيه ممارسة العمل الإبداعي ترفاً لا مكان له في جدوله، باستثناء أولئك الذين تتفجر طاقاتهم الإبداعية رغمًا عنهم، أو من يجد في الإنتاج الإبداعي متنفساً لا يستطيع العيش بدونه، وهذه حالات استثنائية تتطلب انضباطاً شخصياً صارماً وابتعاداً عن المناسبات والمجاملات المجتمعية التي تستهلك الكثير من الوقت، كما كان يفعل غازي القصيبي -رحمه الله-، وهي الوصفة التي تحدث عنها لتبرير قدرته الهائلة على القيام بمهام وظائفه القيادية الكبيرة مع المحافظة على الإنتاج الأدبي الغزير والرائع. في حوار مع مجلة الكواكب، سُئل نجيب محفوظ، "أنت موظف حكومي فهل يساعدك هذا على التفرغ للكتابة؟" أجاب محفوظ: "الواقع أن وقت الكتابة نخطفه خطفاً من أوقات الفراغ، وأحسن ساعات النهار نشاطاً تُنفق في العمل الحكومي، ولقد اقترحت يوماً على وزارة الإرشاد أن تعين الأدباء بمكافآت، وأن تقتصر أعمالهم على نصف النهار الأول، على أن تكون هذه المكافأة مجزية، حتى يستطيع الأديب أن يتفرغ لعمله فقط، ولا تشغله عنه الكتابة للسينما أو المسرح أو غير ذلك".