إذا كانت معرفة الحقيقة الكاملة حول ما حدث في الماضي أمراً شبه مستحيلٍ، وإذا كانت تفسيرات الماضي تتغير باستمرار أو تنقح، فكيف يمكننا تقديم قراءة مؤكدة ونهائية حول ما حدث في الماضي؟ بمعنى آخر، هل المعرفة التاريخية ممكنة؟ يطرح جون فيا هذا السؤال في كتابه: لماذا ندرس التاريخ؟ على مدى عدة عقود، انتقد أنصار ما بعد الحداثة الروايات التي يقدمها المؤرخون عن الماضي، حيث جادل هؤلاء بأن السرد قد صيغ في النهاية من قبل الراوي نفسه الذي يجلب تحيزاته إلى القصة، ويمارس السلطة على النص، ويختار أي صوت يريد إسماعه للآخرين في روايته وأي صوت يريد إسكاته. فمثلاً يفترض الطلاب الجامعيون أن الكتاب الذي تم تخصصيه لهم من قبل أستاذ المادة لدراسة تاريخ الولاياتالمتحدة أو الحضارة العالمية يقدم لهم سرداً "لما حدث" في الماضي، دون أن يدركوا أن مؤلفي هذا الكتاب قد قاموا بالعديد من الخيارات - إما شعورياً أو لا شعورياً - لكي يختاروا هذه القصة دون الأخرى، لقد قام المؤلفون باختيارات حول مقدار المساحة التي يجب تكريسها لبعض الفاعلين التاريخيين، وكيف يتم تنظيم مختلف أجزاء الماضي وعرضها، ومكان بدء القصة وإنهائها. ونتيجة لذلك، يجادل العديد من أتباع ما بعد الحداثة أنه لا يوجد سرد واحد قادر بالفعل على التقاط الماضي؛ لأنه سيكون دائماً نتاج التحيزات والخيارات التفسيرية (غالباً ما تستند إلى تلك التحيزات) التي يجلبها الراوي إلى القصة، وبالتالي سوف يتم الطعن في السرديات إلى الأبد والتي لن تقدم لنا أي دليل موثوق لما حدث في الماضي. وأمام هذا الهجوم ما بعد الحداثي على كتابة التاريخ دافع العديد من المؤرخين عن تخصص التاريخ.. فكرونون - أحد رؤساء الجمعية التاريخية الأمريكية - يصر على الدفاع عن الماضي كأشياء حقيقية يجب أن تتوافق معها رواية القصص بطريقة أو بأخرى حتى لا تتوقف عن كونها تاريخاً تماماً. يقول: إن الروايات التاريخية لا يمكن أن تتناقض مع "الحقائق المعروفة في الماضي"، ويجب كتابتها من قبل مجتمع متنوع من المؤرخين الذين سيكشفون عن تحيزاتنا ويصححون افتراضاتنا وتفسيراتنا "الخاطئة". ويواصل: "معظم المؤرخين المتخصصين لا يؤمنون أن كل القصص عن الماضي تعد جيدة على حد سواء"، وهنا تأتي مهارة تحديد القصة الجيدة عن الماضي والقصة غير الجيدة من خلال مهارة المؤرخ وقدرته على وزن مصادره التاريخية. ومتى ما تسلح المؤرخ المتخصص بهذه المهارة مع العديد من المهارات الأخرى فإنه سيقدم لنا معرفة تاريخية جيدة، وإن لم تتطابق تماما مع الماضي فإنها ستعكس أغلب جوانبه.