فوضى عارمة، أمن مضطرب، خوف وجوع، فقدان للبوصلة، ضعف وهوان، تناحر وفرقة، سلب ونهب: تلك هي حالنا قبل الخامس من شوال 1319ه. ومع الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم تبدل التاريخ وتعدلت الموازين وأشرقت شمس الحياة. مع حلول ذكرى اليوم الوطني تستعيد الذاكرة التاريخية ذلك الصباح حين ارتفع صوت البشائر على مدينة الرياض مخبراً بعودة دولة آل سعود من جديد ومبشراً بعهد جديد ومجد تليد. فقد نجح الفارس المغوار والسياسي البارع عبدالعزيز بن عبدالرحمن بإعادة البناء وإطلاق عجلة الخير والنماء، لقد صمد أمام عواصف عتية، وتجاذبات سياسية، وقوى إقليمية ودولية، ناهيك عما في الداخل من مدن وقرى وزعامات متنافرة متناحرة. وسط هذا البحر المتلاطم دانت له الأرض بفضل الله، ثم بدعم الرجال المخلصين. توحدت رقعة جغرافية واسعة، ومساحات أرضية شاسعة، آلاف النفوس البشرية، وعشرات اللهجات اللسانية، لقد توحدت القلوب تحت قيادته، وانساقت الجيوش تحت رايته، وحينما أعلن أن هدفه رفع راية التوحيد للخالق، وقرر توحيد إمامة المصلين في الحرمين الشريفين فكأنما اتخذ قراره التاريخي بأن الشعار الدائم لهذه البلاد هو التوحيد والوحدة. لقد أقام البناء على أسس راسخة وقواعد ثابتة أهمها الشريعة الإسلامية واعتبارها أساس التشريع في البلاد: فهو القائل مخاطباً أعضاء مجلس الشورى: (وإنكم تعلمون إن أساس أحكامنا ونظمنا هو الشرع الإسلامي وأنتم في تلك الدائرة أحرار في سن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقا لصالح البلاد على شرط ألا يكون مخالفا للشريعة الإسلامية). كما اتخذ من المشورة وسياسة الباب المفتوح منهجاً لاتخاذ القرار مدركاً أن التلاحم والتواصل بين القيادة والشعب وسياسة الباب المفتوح من أفضل السبل وأنجعها لخدمة الوطن والمواطنين ولتقدم البلاد ورقيها. فهو القائل: (الواجب يقضي بأن أصارحكم.. إننا في أشد الحاجة إلى الاجتماع والاتصال بكم.. وأود أن يكون هذا الاتصال مباشرة وفي مجلسي لتحملوا إلينا مطالب شعبنا ورغباته وتحملوا إلى الشعب أعمالنا ونوايانا.. إنني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقاً دائما لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب.. لذلك سيكون مجلسي مفتوحا لحضور من يريد الحضور، وأود الاجتماع بكم دائما لأكون على اتصال تام بمطالب شعبنا وهذه غايتي من وراء هذا الاتصال". إن من كان هذا منهجه وتلك سياسته لجدير بأن يحقق ما عجز عنه آخرون، يقول المؤرخ النمساوي فون دايزل: "إذا عرفنا أن ابن سعود نجح في تأليف إمبراطورية تفوق مساحتها مجموع مساحات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا معا بعد أن كان زعيما لا يقود سوى عدد من الرجال لاسترداد الرياض عاصمة أجداده لم يداخلكم الشك في أن هذا الرجل يحق له أن يسمى نابغة.." لقد وحد الصف وجمع الكلمة وتبعه الجميع، قاد السفينة بسلام وسط أمواج متلاطمة، فتمكن من فرض نفسه واقعا جديداً بين الكيانات السياسية للمنطقة؛ تطلب وده دول عظمى كانت من قبل ترفض الاعتراف به أو مجرد التعامل معه، وفي الداخل يتمكن بالتماشي مع متطلبات روح العصر وتطورات التقنية من تحويل بلاده إلى جوهرة نفيسة وسط تلال الرمال، وقبل أن ينتقل إلى جوار ربه يتخذ خطوة تاريخية مفصلية بتفعيل (ولاية العهد) لتكون خطوة مستقبلية لنظام لتوارث الحكم في أسرته يطمئن من خلالها على أنه ترك نظاما سياسيا وإداريا واضحا مؤهلا للبقاء والنماء والتطور، ليتسلم الراية من بعده أبناؤه الملوك الميامين سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، ثم يأتي عصر الملك سلمان -حفظه الله- وولي عهده الملهم الأمير محمد بن سلمان لتتواصل المنجزات التنموية عبر رؤية عصرية، فتجاوزنا دولا كبرى وإمبراطوريات عظمى تاريخها قرون من السنوات لتصبح المملكة العربية السعودية اليوم في مقدمة دول العالم اقتصاداً ومكانة سياسية، ومن أسرعها نموا عبر التاريخ. تهنئة قلبية لقيادتنا المباركة بهذه المناسبة الغالية، والتهنئة موصولة لأفراد الأسرة الحاكمة والشعب السعودي المخلص الوفي، سائلين الله أن يديم على هذا الوطن الأمن والأمان والتقدم. * مستشار سمو أمير منطقة القصيم عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم