تعدّ اللغة من أبرز مظاهر الحضارة للأمم والشعوب، فهي تشير إلى عظمة الحضارة؛ إذ لم تسد أمة من الأمم في أيّ زمنٍ مضى إلى وقتنا الحاضر إلّا سادت لغتها في الوقت نفسه، وظهرت على جميع اللغات، وانتشرت مفرداتها، وأصبحت مقصدًا لكلّ من رام التقدّم والتطور والعيش في لحظة المجد الحضاريّ، وكنف ظلالها وإنجازاتها، فاللغةُ أساسُ بقاء أيّة حضارة، وسورها المنيع في وجه أخطار الزوال والاندثار، أو الضعف والعطالة، وأداتها النافذة في صون حضارتها وتعزيز مكانتها. بهذا، تبدو وظيفة اللغة متجاوزة لوظيفتها التواصليّة الظاهرة إلى أبعاد حضاريّة أكثر عمقًا وتعدّدًا، ومنها: الوظيفة الأخلاقيّة والقيميّة التي تسهم في ارتقاء الأمم والحضارات، وقيم الفرد والمجتمعات؛ فهي غذاء روحيّ وقيميّ وأخلاقيّ بما تحمله من حمولات رمزيّة، وتؤدّيه من غايات تعليميّة، فلا يمكن أن تزرع القيم الإنسانيّة المجرّدة كالصدق، والعدل، والمحبّة، والإحسان في نفوس الأطفال إلّا عبر اللغة، ففي الفنون القصصيّة والشعريّة والمسرحيّة -التي مادتها اللغة- تنثر القيم لتصل إلى النفوس؛ لذلك حرص الآباء منذ القدم في تعليم أبنائهم على الأدب والشعر الجيدين، لأثرهما في تهذيب النفوس والارتقاء بها. فتعلّم الفصاحة لا بدّ وأن يزرع في الروح والسلوك النصاعة، وكلّما ارتقت اللغة ارتقت النفس وتهذّبت، فالهويّة الفرديّة تتشكّل اجتماعيًّا ولغويًّا، ولقد أدرك كثير من علماء العربيّة في تراثنا ارتباط اللغة بالطبع والأخلاق، فهذا المبرّد صاحب كتاب الكامل يشير في معرض حديثه عن خروج ابن الأشعث على عبدالملك بن مروان إلى إجراء تأديبيّ قام به الحجاج بعد إخماد الفتنة والتمرّد، يتمثّل بإجلاء الموالي من العجم الذين انضموا إلى التمرّد والفتنة، عن مواضع «الفصاحة» بتعبير المبرّد، أي عن المدن كالكوفة والبصرة، وإعادتهم إلى قراهم التي قدموا منها، وقد تنبّه المبرّد لكونه عالم لغة إلى أنّ هذا الإجراءَ إجراءٌ عقابيّ له أثره في لغتهم وأخلاقهم! فقد وصف إخراجهم من الأمصار بأنّه إزالة لهم عن مواضع الفصاحة والآداب، لما اقترفوه، ويذكر أن نتيجة هذا الإبعاد عن مواضع الفصاحة، بقوله: وبعد أن طال بقاؤهم، توالد القوم هناك، فَ «خبثتْ لغات أولادهم، وفسدت طبائعهم»، وهذا ربط ذكيّ دقيق من عالم لغويّ شهير، ما بين فساد اللغة وفساد الطبع، ويمثّل إشارة متقدّمة إلى وظيفة اللغة على المستوى النفسيّ والاجتماعيّ، والبناء القيميّ للفرد والمجتمع، لا حصر وظيفتها بالجانب التواصليّة فحسب، ليظهر بذلك النفي الجغرافيّ/اللغوي وكأنّه عقوبة لغويّة أفضت إلى عقوبة حضاريّة أخلاقيّة بحقهم. إنّ تأمّل لغة الأطفال، ولغة المجتمع، يمكن أن يشير إلى ظواهر سلوكيّة وأخلاقيّة، الأمر الذي يسهم في الوقوف عندها، وتحليلها، واقتراح حلول وعلاجات للسلبيّ منها؛ فاللغة هي الأداة التشخيصيّة الأهم لعلماء النفس والاجتماع في كثير من الحالات النفسيّة والاجتماعيّة، وهي مكون أساسيّ لهويّة الفرد والمجتمع، بل إن بعض العلماء ك«سمارتس» رأى أنّ الهويّة نفسها ظاهرة لغويّة!