كانت كف المرأة حول الإمام أحمد بن حنبل ممدودة إليه دوماً، وكان جِدّها معه دائراً بالتوفيق، وما يرويه الرواة من حياةٍ طيبة، نعلم أن النعيم لم يخالطها في غالب وقتها، وبقدر ما كان الإمام -رحمات الله تترى عليه- قالياً للدنيا منصرفاً إلى علم الحديث، فلقد رزقه الله برفقة نسوة حوله أقمن الثقل من على ظهره، وكن من مراسي الرحمة عنده، ومن موانح النعم من الولي الأحد، الإله المحمود، وأُولى الحنبليات المبكرات أمه صفية بنت عبدالملك الشيباني، فبعد أن توفي أبوه وهو بعمر الثلاثين، ولم يكن في جدول عمره القصير مُكْنةً أن يَثري، فأوت أمه إلى جانب من الدار، وأجرت البقية الباقية بكراء يسير. فلطالما تجنبت روحه -رحمه الله- زخرف هذه الدنيا العاطل، وعلمت أن العيش لا محالة زائل، ولكنها تتوق إلى العلم أيما توق؛ فقيض الله له والدته، مدت جناح الرعاية عليه، وجعلت يمينه تصافح الكتب ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وجعلت جهدها موصولاً بقطعِ كل إسارٍ يلتف حول ابنها الوحيد، وصدفت عنه هموم الكسب، فلا سبيل أن تسكن خاطره، وجعلت داراً ورثها من أبيه قرارًا مكينًا لرزق كريم يُعلمه ويُرقيه في منازل العالمِين، فكل ما يأتي من خراج والده كان سالكاً به طريق الكفاية وحارساً له بكل رشاد بيد الحنبلية الأولى صفية نسبة لا فقهاً. ترك الإمام أحمد الزواج منقطعاً إلى العلم قاعداً قائماً، متحركاً وساكناً، فلم يتزوج إلا بعد الأربعين بعد أن توفيت والدته؛ وحلت زوجته الأولى الحنبلية الثانية في حياته، العباسة ابنة عمه الفضل أم صالح، ولطالما تفكرت في حديثه عنها لما قال: «أقامت معي أم صالح فما اختلفتُ أنا وهي في كلمة»؛ وهذا وصف لتلبس الحياة مع أم صالح بالبهاء، فلم ترهقه من أمره صعوداً، ولم تكن عقبة كؤوداً، وكانت من النساء القلائل اللاتي روين عن الإمام، فلبست بذا قلادة مضيئة بالعلم. ولما توفيت العباسة تزوج الحنبلية الثالثة ريحانة أم ابنه عبدالله، أقامت معه وكانت ممن روى عنه من النساء، فلما مضت سبع سنوات من عمر رباطهما الوثيق قالت له: «كيف رأيتني يا أحمد، أأنكرت شيئاً؟ قال: «لا، إلا نعلك هذه تصّر بصوت يشتت انتباهي حال درسي». ولما توفيت ريحانته تزوج جاريته حُسْن، الحنبلية الرابعة في عمره المديد، أنجبت له بقية أبنائه علياً وزينب، والتوءم الحسن والحسين ماتا بالقرب من ولادتهما، ثم ولدت الحسن ومحمداً وبلغا نحو الأربعين، ثم ولدت بعدهما سعيداً قبل موت أبيه بنحو من خمسين يوماً، وعاش حتى ولي قضاء الكوفة. وجللّت عمرها المبارك بأن روت عن الإمام مرويات ثابتة، وفي هذه الأيام تطالعنا الأمور المتداخلة المتضادة فيما يجب على المرأة في بيتها وفيما يصح منها لإقامة بيت الزوجية، فهذا هو الإمام المقدم أحمد بن حنبل -رحمه الله- إنفاقُ أهل بيته إنما هو قائم في دخله المادي على صنعةِ زوجته الثالثة حُسْن، يروي ابنه صالح أن أباه قال: «كانت والدتك في الغلاء تغزل غزلاً دقيقاً، فتبيع الأستار بدرهمين أقل أو أكثر، فكان ذلك قوتنا»، ولم يكن هذا من الأمور المغمّاة بل يعلمها كل أحد، فلقد ساست امرأته بيته وبسطت يدها بالعمل والغزل، حدث أبو القدور القطان قال: «كان يجيئني أبو عبدالله بغزل ويُسَتِّره أبيعه له، فكنت ربما بعته بدرهم ونصف، وربما بعته بدرهمين، فتخلف يوماً فلما جاء قلت: يا أبا عبدالله لم تجئ أمس، فقال: أم صالح اعتلت، ودفع إليّ غزلاً فبعته بأربعة دراهم، فجئت بها فأنكر ذلك، وقال: لعلك زدت فيه من عندك؟ فقلت له: لا، ما زدت فيه من عندي، بل كان غزلاً دقيقاً». وكررت حُسْن العَتْب عليه والعَتْب منه، وخاطبته وهي مباثّة في رداء شكاية، على الفاقة التي كانت تحيط بمرافق حياتهم، فيذكر ابن جبلة أنه قال: كنت يوماً على باب أحمد والباب مجاف، وأم ولده تكلمه وتقول له: أنا معك في ضيق!، ومنزل ابنه صالح الملاصق لبيت أحمد يأكلون ويفعلون ويفعلون، وهو يقول: قولي خيراً! وهذا الرد يذكرني بكلمة أبي الحبيب: «عيني خير»!، في كل مرة تخاطبه أمي الطيبة في شأن صعب. وهنا خرج أحمد بأحد أبنائه الصبية الصغار وبكى، فقل له: أي شيء تريد؟ فقال: زبيباً، فبادره: اذهب فخذ من البقال بحبة، وكأنما فطن -رضي الله عنه- أن الأم ترضى إذا أرضيت صغارها سراعاً، وكان محملاً بالود والحنان تجاهها، وذات مرة في ضائقة مرت بهم قالت له: «يا مولاي اصرف فرد خلخالي، فأجابها: وتطيب نفسك؟ قالت: نعم، فقال: الحمدالله الذي وفقك لهذا». وهذا الحنو يختلف لو كان موجهاً لأبنائه الذكور، فيقول ابنه صالح: «وكنا ربما اشترينا الشيء فنستره عنه كي لا يراه فيوبخنا على ذلك»، وأخالنا مررنا بذات الدرب في ذا. ولا أعني بحديثي عن اتصال أحمد بالكفاية المالية من جهة والدته وزوجه أنه لم يسعَ في طلب الرزق، لا بل العكس كان هو الحق، فمذ كان صبياً صغيراً يافعاً جلله الاحترام في أزقة المدينة، فكانت نساء بغداد يأتمننه على قراءة رسائل أزواجهن في الجهاد والغزو، يفض الغلاف ويجيب عن المسألة بما شاءت الزوجة ولا يُعرَّفُ أحداً بما قرأ أو كتب، ويحدث عنه قومه: «كان معنا غليم بالكتاب نعرفه يكتب الناس إلى منازلهم الكتب، فيبعث نساؤهم إلى المعلم، ابعث إلينا بأحمد بن حنبل ليكتب لهن جواب كتبهم، فكان يجيء إليهن». وربما يحتاج إلى مال من فوره، فكان يخرج إما أن ينسخ بأجرة، كأنما هو مكتب خدمات نسخ موصولة بأكرم كفٍ كاتبة، وإن قصرت عنه مهنة الوراقة، أكرى نفسه من الجمالين يحمل فوق ظهره ويكسب دراهم معدودة. الكتابة عن النساء دوماً هي مشي في بستان بهيج، تحيط به أشواك، سواء بسواء، ولو عدنا إلى تاريخ الفقه لكان المشاهَد كونه علم رجال، وثمة ظلال مخفية تضيء الطريق لنساء عملن مع الفقهاء معيشة ورواية مثل «صاحبات أحمد» الحنبليات المبكرات. *دكتوراة في البلاغة القرآنية