(قال الشاب وهو حزين مُتألم : تقدم والدي وأنا معه لخطبة عروس لي من والدها، الذي اشترط مهراً 60 ألفاً، مع علمه أني شاب في مُقتبل العمر وفي بداية حياتي الوظيفية، وأني لا أستطيع دفع هذا المهر، وأستطيع في نفس الوقت أن آخذ ابنته ( ببلاش وبدون مقابل !!) وأذهب بها إلى المكان الذي أريد!!، متى أريد!!، وآخذ منها ما أريد !!، ثم أرمي بها في أي مكان، كما يصنع بعض الشباب، ولكني أخاف الله، فهل يخاف الله والدها ؟ !) اه. الحمد لله القائل : (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يُغنهم الله من فضله والله واسع عليم) النور 32 . والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم القائل (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) رواه الترمذي وهو حسن . قال الشيخ المباركفوري رحمه الله : (أي ذو عرض أي كبير، وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه، ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنى، وربما يلحق الأولياء عار، فتهيج الفتن والفساد ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة) . وقال صلى الله عليه وسلم (حبب إلي من دنياكم : النساء و الطيب و جعلت قرة عيني في الصلاة) رواه أحمد (صحيح). والله برحمته وببالغ حكمته، قد لبى حاجة كلٍ من الرجل والمرأة في الآخر، وجعل ذلك آية من آياته فقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )الروم (21) . قال سيد قطب رحمه الله : (فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقاً للآخر . ملبياً لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية . بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار،ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء , والمودة والرحمة , لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر , وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد) . وما جاء أيضاً في وصف العلاقة بين الزوجين، وروعة التشبيه القرآني لهذه العلاقة، في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) البقرة: 187. في هذه الآية شبه القرآن العظيم كلاًّ من الزوجين باللباس للآخر، وإذا تأملنا كلمة (لباس) وجدناها تحمل معاني عظيمة الدلالة على مدى الألفة التي أرادها الله للزوجين من خلال هذا التشبيه ومنها : الستر، والوقاية والحماية، والدفء، والتكميل، والجمال والزينة، والتكيف، والمطابقة، والالتصاق والقرب. ولهذا، أيها الآباء إن لنا في رسولنا صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة، وقد قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) الأحزاب 21 كان هديه صلى الله عليه وسلم القائل : (خير النكاح أيسره » رواه ابن حبان . وقال الألباني ( صحيح ). وقال صلى الله عليه وسلم :(خير الصداق أيسره)رواه الحاكم والبيهقي . وقال الألباني ( صحيح ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أراد الزواج : (التمس ولو خاتما من حديد) متفق عليه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته المثل الأعلى في ذلك، حتى ترسخ في المجتمع النظرة الصادقة لحقائق الأمور، وتشيع بين الناس روح السهولة واليسر، وعن ابن عباس أن علياً قال :« تزوجت فاطمة رضي الله عنها، فقلت : يا رسول الله، ابن بي – وهو الدخول بالزوجة - قال : اعطها شيئاً . قلت : ما عندي من شيء . قال : فأين درعك الحطمية ؟ قلت : هي عندي . قال : فاعطها إياه » صححه الألباني في صحيح النسائي. فهذا كان مهر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة، وهذا يؤكد أن الصداق في الإسلام ليس مقصودا لذاته. وعن عمر بن الخطاب قال : (لا تغالوا صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه وسلم ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ويقول قد كلفت إليك علق القربة) صححه الألباني في “صحيح ابن ماجه” . (لا تغالوا) أي لا تبالغوا في كثرة الصداق . . . (وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه) أي حتى يعاديها في نفسه عند أداء ذلك المهر لثقله عليه حينئذٍ أو عند ملاحظة قدره وتفكره فيه . . . (ويقول قد كلفت إليك علق القربة) حبل تعلق به، أي تحملت لأجلك كل شيء حتى الحبل الذي تعلق به القربة. اه من حاشية السندي على ابن ماجه. اثنتا عشرة أوقية تساوي أربعمائة وثمانين درهما أي مائة وخمسة وثلاثين ريال فضة تقريبا (134.4) فهذا كان صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم ونسائه. قال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (32/194) : (فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة) اه . وقال أيضا في “الفتاوى الكبرى” : (وكلام الإمام أحمد في رواية حنبل يقتضي أنه يستحب أن يكون الصداق أربعمائة درهم , وهذا هو الصواب مع القدرة واليسار فيستحب بلوغه ولا يزاد عليه) اه . وذكر ابن القيم في “زاد المعاد” (5/178) بعض الأحاديث الدالة على تخفيف المهر وأنه لا حد لأقله ثم قال : (فتضمنت هذه الأحاديث أن الصداق لا يتقدر أقله . . . وأن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح وأنها من قلة بركته وعسره) اه. وبهذا يتبين أن ما يفعله الناس الآن من زيادة المهور والمغالاة فيها أمر مخالف للشرع . والحكمة من تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه واضحة : وهي تيسير الزواج للناس حتى لا ينصرفوا عنه فتقع مفاسد خلقية واجتماعية متعددة. ومن الآباء من يغالي في صداق ابنته، وكأنها متاع يريد أن يبيعه، ويزيد في قيمته، ويرد الخطاب بحجة فقرهم وبساطة دخلهم، ومنهم من يعضل بنته ويمنعها من الأكفاء، لوظيفتها، وتسلطه على راتبها، حتى يذهب عمرها، أو تفسد أخلاقها وتقع في الحرام، الذي كثرت وسائله وسبله في هذا العصر وأُججت الشهوات وأصبحت متاحة منظورة عبر القنوات والشبكات، ولا عاصم إلا الله. والقصص في هذا المقام كثيرة، ومنها قصة . . ( شابة وبنت موظفة وقعت في مشكلة عدم بصيرة والدها فحكم عليها بعدم الزواج، رغبة في راتبها الشهري الذي يتمتع به، ولما كانت الفتاة إنسانة لها من المشاعر والأحاسيس المرهفة، وترى زميلاتها وهن يلدن البنين والبنات، وهي تعيش في شقاء الوحدة وحرمان المتعة المباحة، وهي لا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة ولا تستطيع أن تُعبر عما في صدرها لحيائها وحشمتها، كتمت تلك البنت أمرها في صدرها، واحتسبته عند الله، وشاء الله أن يمرض ذلك الوالد الظالم لها مرض الموت، فلما أحس بدنو أجله؛ أدرك فداحة خطئه في ابنته المسكينة، وأراد أن يطلب منها السماح، فناداها وطلب ذلك وهو في سكرات الموت، فردت البنت رد المتحسر على ضياع حياته، ردت رداً انطلق من قلبها قبل أن ينطلق من لسانها، ردت وهي تتقطع حسرات على ذهاب شبابها وحرمانها من أمومتها ردت: يا أبي, قل آمين. فقال الأب: آمين قالت: يا أبي حرمك الله الجنة، كما حرمتني الزواج). فعلى الآباء أن يتقوا الله في بناتهم، وأن يسهلوا أمر خطبتهن ونكاحهن، ففي ذلك الخير لهم ولبناتهم . اللهم ارزق بنات المسلمين من يخافك فيهن ويحسن إليهن ويسعدهن ويعاشرهن بالمعروف، آمين .