مرت دراسة تحليل الخطاب بمنعطفات عدة ابتداء من الشكل ووصولاً إلى المضمون أو ما عُرف بالتحليل الأيديولوجي الذي أوجد الأدوات والعلاقات المنهجية الاجتماعية بين بنية اللغة ومعناها، فأصبح يدرس طبيعة اللغة بإضافة المكون الخارجي إليها دون الاقتصار على مكونها الداخلي، ويقبل في تحليله بدمج اللسان والكلام ودراستهما على حدٍ سواء على النقيض من المفاهيم البنيوية التي لا تتفق مع منطلقات تحليل الخطاب بصفة عامة، فتقوم في تحليلها على عزل اللغة عن المكونات الخارجية، وإقصاء فكرة المرجع الخارجي والمقام، والنظر إلى العلامة اللغوية في علاقة ثنائية تتمثل في الشكل والقيمة، وعزل اللسان عن الكلام. ويُطبق مصطلح تحليل الخطاب على نطاق واسع مع المقاربات اللغوية التي يشترك تركيزها على الخصائص اللسانية والأنماط الشكلية والوظائف الاتصالية في سياق النص الطبيعي، سواءً أكان منطوقا أم مكتوبًا؛ حيث إن مركز ثقل الدراسة اللسانية قد تحوّل أخيرًا من الجملة إلى النص، أي من التركيب إلى الخطاب ما جعل هذا التحوّل يحظى بقبول متزايد لأهمية دور اللسانيات في وصف وتفسير اللغة في استعمالها. بالإضافة إلى تأثره بالمشاريع المعرفية المختلفة التي أنتجت بطبيعة الحال - مقاربات متعددة؛ حيث سمح ثراء الاستقطاب المعرفي بتعدد اتجاهات تحليل الخطاب ومدارسه. وقد كان لغموض تصوّر الخطاب كونه ذا طبيعة متعددة الأوجه انعكاساته على صعوبة تحديد حدود مفهوم تحليل الخطاب؛ حيث يمكن مقاربته على المستوى الجزئي مثل دراسة آلية ارتباط كل ملفوظ بالآخر تفاعليًّا، وعلى المستوى الكلي مثل دراسة دور الخطاب بصفته شكلاً من أشكال الهيمنة التنظيمية داخل المجتمع من خلال دراسة التفاعل القائم بين الملفوظات في عمليتي الإنتاج والفهم وما يتضمنهما من استراتيجيات تنطلق من القصد والتأويل، بالإضافة إلى التنظيم غير المعلن الذي يقوم على بناء جسور من التوافق والثقة بين قطبي الخطاب (المرسل والمتلقي)، وعلى سلطة الخطاب التي تُشكّل رافدًا من روافد تنظيم سلوكات أفراد المجتمع وتنمية وعيهم وغير ذلك مما ينطلق من خلفياتهم المعرفية. ويرجع الاستخدام الأول لمصطلح تحليل الخطاب إلى هاريس (Harris) عام 1952م. وعلى الرغم من أنّه ركّز على البنية السطحية للجملة إلا أنه لم يحدد في ورقة بحثه البرنامج الذي اتبعه في تحليل الخطاب، وكان هدفه متمثلاً في توسيع الأساليب الراهنة لتحليل بنية الجملة القائمة على التوزيع فقط دون اللجوء إلى المعنى في تحليل النصوص. غير أنَّ أحد الروّاد الذين يُعترف بمساهمتهم الأكثر أهمية هو ميشيل فوكو (Mitchell Foucault الذي حدّد في مقال صدر عام 1957م المراحل الوظيفية للتفاعلات بين الباعة عبر سياق ثقافي معين؛ حيث تضمنت دراسته سمات رئيسة ضارعت تحليل الخطاب، وشملت تحليل النصوص الطبيعية العاملة على مستوى النص. بالإضافة إلى استكشاف آلية تنظيم الخطاب لأغراض تواصل المشتركين وتفاعلهم، مع التمييز بين كل مرحلة تفاعلية. واليوم، فإن غالبية مقاربات تحليل الخطاب بصفة عامة تتبع مفهوم فوكو للخطاب بصفته مجموعة قوانين محددة تفرض قيودًا على ما يمنحه المعنى. وهي وإن اعتمدت أفكاره إلا أنها تختلف جميعًا عن ميل فوكو إلى تحديد نظام معرفي واحد فقط في كل مرحلة؛ وبدلاً من ذلك، فإنَّها تعمل مع صورة أكثر تنوعًا حيث توجد فيها الخطابات المختلفة جنبًا إلى جنب. إن تحليل الخطاب بات يستعين بنماذج الفهم والتحليل المتطورة عن اللسانيات والتداوليات والعلوم الإنسانية والفلسفة. وشمل أيضًا تخصصات تطبيقية خاصة، ومفاهيم مستلهمة من العلوم الإنسانية مثل علوم الاتصال، وعلم النفس المعرفي، وعلم النفس الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، والتاريخ، والإثنوغرافيا، والأنثروبلوجيا. وكانت إحدى أهم المراحل التاريخية في تطوّر ملامح تحليل الخطاب تتمثل في قيام بيشو (Pecheux) ورفاقه عام 1979م بتطوير مقاربة نقدية لتحليل الخطاب من خلال اللسانيات النقدية؛ حيث حاول الجمع بين النظرية الاجتماعية الماركسية في الخطاب لألتوسير (Althusser) 1971م ومنهج تحليل النص أو اللسانيات النظامية لهاليداي (Halliday 1978م، وتعمل مقاربته بشكل رئيس على الخطاب السياسي المكتوب. وقد ارتبط بحثه عن وعي بالتطورات السياسية في فرنسا، وهذه المقاربة وإن كانت أكثر تطوّراً بحسب فيركلاف (Fairclough) - إلا أن التحليل اللغوي يعالج بعبارات دلالية ضيقة للغاية، بالإضافة إلى قلة الاهتمام بعمليات إنتاج النص وتفسيره أو التفرعات التي تميّز هذه العمليات. وبناء على ذلك، فإن محاولاته للتوليف بين النظريتين قد أخفقت في اختبار ديناميكية اللغة في إطار عمليات التغيير الاجتماعي والثقافي. وعلى الرغم من الإنجازات الكثيرة في أواخر الستينيات؛ حيث بدت تتضح أسس تحليل الخطاب ومعالمه، فإنَّ أوّل مقدمة صريحة جاءت في كتاب مالكوم كولتارد (Malcolm Coulthard عام 1977م، ثم تلته كتب رائدة أخرى كأعمال بوغراند Brown & ( عام (1981م، وبراون ويول )Dressler( ودرسلر ،)Beaugrande( Yule) عام 1983م، وستوبز (Stubbs) عام 1983م. وبطبيعة الحال، فقد كانت ثمة مظاهر اتفاق واختلاف بين هذه الكتب الأربعة إلا أنها عكست بعضا من أهم اتجاهات تطور تحليل الخطاب. فبالنسبة لكولثارد، فإنَّ الخطاب يُشير أساسًا إلى التفاعل المنطوق، فهو يعتمد على نظرية الأفعال الكلامية وغيرها من مجالات التداولية وتحليل المحادثة واللسانيات الاجتماعية. ومن ناحية أخرى يركز كل من بوغراند و درسلر على الخصائص العامة للنصوص، مع التركيز على النص المكتوب. ويميز كل من براون ويول بين النص باعتباره منتجًا، والخطاب باعتباره ممارسة بمعنى تمثيل النص بصفته سجلاً في عملية التواصل، وتمثيل الخطاب للعملية نفسها. في حين يهتم ستوبز بوسائل تحليل الخطاب في سياقها الاجتماعي الثقافي.