تشترك الأمم والحضارات في كثير من القيم والعادات، ولاسيما ذات الطبيعة الإنسانيّة منها، والمجمع عليها في أغلب الأديان والنظريات الأخلاقيّة والفلسفيّة؛ من مثل: الصدق، والوفاء، والكرم، والشجاعة، وغيرها من القيم الإيجابيّة التي تحثّ عليها، وتُثني على أصحابها، وتفخر بالتزامهم بها، وقد تحوّلهم إلى أساطير وتضرب بهم الأمثال، وبخلاف ذلك تجري الإشارة إلى السلوكيات المذمومة، ويُحّذر منها، ويذمّ أصحابها. ومع ذلك، فإنّ بعض القيم قد أخذت طابع انتشار أوسع في حضارة بعينها، وغدت سمة تميّزها عن غيرها من الحضارات، من حيث ذيوع الصيت، بخلاف قيم أخرى متعادلة بين الأمم والحضارات، كالشجاعة والإباء، والصدق والوفاء، إذ يكون شيوعها متقارب بين الأمم، ليقال في حقّها الوصف الشهير: كلّ مجتمع فيه الصالح والطالح. إنّ أكثر ما يميّز الحضارة العربيّة من قيم، قيمة الكرم، أو بتعبير أدقّ قيمة الجود وإكرام الضيف، والتغنّي بهما، وإنْ أردنا تحليل سبب انتشار هذه القيمة، وأخذها موقع الصدارة في سُلّم القيم العربيّة، لرأينا أن من المحتمل أن يكون للطبيعة الجغرافيّة أثر في ذلك، فحياة الترحال والتنقل يمكن أن تكون قد أسهمت في تكريسها؛ لتغدو حاجة للمحافظة على الحياة، في ظلّ صحارٍ ومفازات مهلكة، إضافة إلى الاستعداد النفسيّ والتاريخيّ والجماليّ لانتشارها في بين العرب، فكما يشير الفيلسوف الفرنسي دولوز إلى أنّ كلّ تحقّق هو حاصل لقاءات بين الفعل وردّ الفعل، وهذا لا ينفي حضور تلك القيمة عند الأمم الأخرى، لكن ما يجري الحديث عنه هو مدى شيوعها، حتّى أصبح لها رموز أيقونيّة في الثقافة العربيّة كحاتم الطائيّ وغيره من أجواد العرب في الماضي والحاضر. في أحيان تنسينا العادة، والتكرار اليوميّ لسلوكيات، ومفردات دارجة متداولة خلفيّاتها الأخلاقيّة والتاريخيّة والحضاريّة؛ لتصبح شيئًا معتادًا لا يحتاج إلى تأمّل، فهي عبارات تُقال، وسلوكيات تُقام من دون وعي أصحابها، أو تكلّفهم لها، ومن هذه المفردات الشائعة في أغلب المجتمعات العربيّة كلمة (تفضّلْ) أو ما يأتي في معناها ككلمة (اقلطْ) الدارجة في المجتمع السعوديّ التي تعني: تفضّل؛ فحين يُقرع باب منزل أحدهم، أو تُلقى التحية على من يقف عند باب بيته، تأتي الإجابة من فورها بعد ردّ التحيّة إنْ لم تسبقها بكلمة: تفضل! إنّها تُقال بالفطرة ودون تكلّف، ولو تأمّلنا دلالاتها الاجتماعيّة، لوجدناها تدل على حُب الاجتماع، وعلى القلوب المشرعة للمحبة واللقاء، والأبواب المفتوحة للضيف والإكرام، إنّ حضور هذه الكلمة (تفضّل) هو دلالة على أنّ قيمة الكرم والإيثار مازالت تحتفظ بحيويتها ودلالاتها التي تبرز ترابط المجتمع وأصالته، ولاسيما إن تأمّلنا ما يميّز هذه القيمة عن غيرها من القيم؛ بكونها قيمة مركبة، بمعنى أنها قيمة تتصل بها قيم أخرى وترتبط، فالكريم والجواد، هو في الأغلب شجاع، صادق، مُحبّ، محبوب، يألف الناس ويألفونه. أمست كلمة (تفضّل) علامة سيميائيّة لقيمة أصيلة في حضارتنا ومجتمعنا، وإحدى سمات وجودنا، وهويتنا التي نفخر بها، ونحرص على حضورها وديمومتها في أجيال المستقبل وفي أخلاقهم النبيلة.