يخرج من المسجد بعد كل صلاة فيصافح جاره ويختم بعدها كلماته التوددية المعتادة بعبارات رنانة: تفضل، حياك، «اقلط». يقولها وهو ينوي التوجه إلى عمله، ويصرّ عليها والأبناء في السيارة يتأهبون للرحلة الأسبوعية، ويهمس بها ووالدته تتحرق من الانتظار تخشى فوات موعد المستشفى. يقولها في كل حين ومرة لأشخاص لم يسبق لهم أن زاروا منزله ولو لمرة، والمشاهدات كثيرة. يشتري الفطائر كل صباح، وكلما همّ بإعطاء البائع أجره، باغته البائع بعبارات حفظها لكثرة ما يسمعها، «ما تخلي يا عم، خليها علينا». يتناول إفطاره في مكتبه يوميّاً ثم يدعو بعبارات توددية مماثلة كلَّ داخل عليه إلى مشاركته الفطيرة التي لم يبقَ منها سوى لفائفها الورقية! وهلم جرّاً. عبارات نبيلة في أصلها ومعناها؛ إذ إنها تستند إلى إرث عريق زاخر بالكرم والأصالة، يوم كانت النيران موقدة والأبواب مشرعة والمجالس عامرة بروادها. إلا أنها – أي هذه العبارات – قد فقدت ألقها ورونقها حين صارت تقال ككلام دارج يختم كل تحية، وتصرف في غير محلها ووقتها، بل في كل وقت ومحل بلا معنى ولا قيمة، حتى غدت مجاملات باهتة وعبارات ملتوية مكشوفة بين متداوليها، توحي بعكس مدلولها! إنّ الكرم مبدأ وقيمة، وإِنَّ للكرم مواقف ومظاهر ووسائل. وإنّ تبدُّل الأحوال وتغير الزمان وتطور المجتمعات وكثرة المشاغل والالتزامات، وإن أجبرت الكرام على تغيير مظاهرهم ووسائلهم، فإنها لا تجبرهم على التخلي عن قيمهم ومبادئهم، وإنما تلزمهم بالحفاظ عليها. فكما أنه لم يعد ممكناً ترك الأبواب مشرعة، والنيران موقدة كناية عن الكرم، فإنه في المقابل لم يعد مقبولاً أن يختزل الكرم في عبارات رنانة لا تجاوز الحناجر! المغزى هنا أن يبقى الكرم مبدأ وقيمة أصيلة، تترجمها الأفعال الصادقة، والمواقف الحقيقية. أن يجد الكرام وسائل ومظاهر مرحلتهم للتعبير عن الكرم حقيقة، وأن يدوم المعروف بين الناس. المغزى هنا أن يسعى الجار سعياً حثيثاً لأن يقول «اقلط» لجاره، وأن يقولها في وقتها ومكانها.