يلقي غروب الشمس ظلالا طويلة على شوارع شايان، في ولاية وايومنغ الأميركية، حيث يقف فيكتور ميلر أمام حشد متواضع، وهو يعلق مكبر صوت صغير ملفوف حول رقبته. يضخم الجهاز صوته، ولكن الذي يتحدث ليس مجرد ميلر إنما (فيك)، وهو الذكاء الاصطناعي الذي اقترحه لقيادة المدينة إذا انتخب عمدة، الكلمات التي تصدر عبر مكبر الصوت تبدو طبيعية، يتحدث بطلاقة ثم يتردد قليلا كما هو مألوف عادة في الكلام المرتجل، لكن الكلام لا يصدر من ميلر الناخب بل من آلته التي ينوي توظيفها لإدارة المدينة. جرى هذا المشهد الذي يبدو مقتطفا من رواية خيال علمي، منذ أشهر خلال سباق البلدية هذه السنة بولاية وايومنغ الأميركية. اقترح فيكتور ميلر، أن يوكل مهمة إدارة المدينة إلى روبوت الذكاء الاصطناعي (فيك) الذي أعده لذلك. كانت فكرته واضحة: دع الذكاء الاصطناعي يقرر بناء على البيانات، بعيدا عن الخطأ البشري أو التحيز أو الفساد. للوهلة الأولى، قد يبدو اقتراح ميلر تطورا طبيعيا في عالم يزداد رقمية يوما بعد يوم. لا شك أن الذكاء الاصطناعي يحقق نجاحات حقيقية في مختلف القطاعات. نظريا، يمكن الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي في حوكمة المدينة بالتخصيص الأمثل للموارد مثلا، أو صياغة السياسات بدقة، وأن يجري كل ذلك بشفافية كاملة، لكن هل هذا هو كل ما في الأمر؟ كما هو الحال مع جميع القفزات التقنية، لا بد من حوكمة دقيقة للتقنية قبل أن يطلق لها العنان بالتنفيذ. لذلك يأتي اقتراح حوكمة الذكاء الاصطناعي نتيجة مخاوف أخلاقية وقانونية وعملية كبيرة. من أهمها وقف استخدام التقنية أداة في تضليل الرأي العام بوعود غير قابلة للتنفيذ كما فعل الناخب ميلر في حملته الانتخابية. فقد استطاع ميلر جذب الاهتمام إلى عرضه الجريء، لكنه رغم ذلك خسر أصوات الناخبين الذين استشعروا خطورة المسألة. ربما نتساءل عن دور الذكاء الاصطناعي في القرارات التي تتخذ اليوم، ونسبة تأثيرها في التوجهات الاستراتيجية على المستوى العام وما لها من تأثير على المستوى الخاص في حياتنا اليومية. لكن عند الرغبة في التوسع في استخدام الآلة التي تتخذ القرارات نيابة عنا، لا بد أن نشكك في قدرتها على فهم مشكلاتنا وما تتطلبها من حلول. هل يمكن للآلة، مهما تقدمت أن تفهم حقا الاحتياجات الدقيقة للمجتمع؟ هل يمكن أن تتعاطف مع عائلة منكوبة أو تفهم جذور خلاف سياسي بخلفياته التاريخية محققة التوازن بين الواجب التنفيذي والواجب الأخلاقي؟ هذه هي الأسئلة التي تلوح في الأفق مع انتقال فكرة الذكاء الاصطناعي من عالم النظرية إلى عالم التطبيق. ربما كان الناخب ميلر مباشرا في طرحه، لكنه يلفت نظرنا إلى حقيقة ربما تخفى علينا أن ما صرح به ميلر علنا ربما يعمل به غيره خفية دون علم من أحد.