تحمل النهايات شيئًا من الفراغ، وأحيانًا الموت، إنّه صمتٌ بعد ضجيج، والصمت يحمل في أحد وجوهه الموت، فثمّة من يستمتع بالرحلة وطريق تحقيق الغايات أكثر من وصوله إلى الوجهة التي يبتغيها، أو الغاية التي يسعى إليها؛ لتجد من يشعر بالأسى بعد انقضاء إجازته، أو في بدء عودة إلى عملٍ أو دراسةٍ أو رتابةٍ كان قد اعتادها وسار عليها. يجد بعضهم أنّه كان يعيش سعادة غامرة قبل الإجازة، أو قبل الرحلة، أو قبل إنجاز عمله، فما الذي تغيّر؟ هل هو كما قال المتنبي يومًا في سياق مختلف، ودلالة تأتلف: لكلّ امرئٍ من دهرِهِ ما تعوّد وعادة سيف الدولةِ الطعنُ في العِدا فهناك من لا يتأقلم مع أيّ تغيير حتّى لو كان تغييرًا يسيرًا! ليلفى نفسه أسيرَ هذا النمط وهذه التفاصيل مهما بدت هامشيّة صغيرة، ويشعر بالارتباك من أيّ تعديل عليها أو تبديل لها! وهناك من يخشى حالة الفراغ التي تحصل بعد إنجازٍ ما أو رحلة ما، إنّه خوف من المجهول المتربص، والصمت الموشك أن يطبق على ما كان يقوم به ويشرف عليه، فكيف له أن يتصوّر حياته من دون ذاك الضجيج الإيجابيّ ومسار الإنجاز الذي يشعره بالغبطة، ويسهم في تحقيق ذاته، وأنّه لا يزال حاضرًا وقادرًا على العطاء؟ إنّها حالة تجمع الشعور النفسيّ والشعور المادي اللذين يبلوران صيغة وجود المرء في الحياة ومعانيها. إنّ الحياة قائمة في أساس تكوينها على ثنائيات ضديّة، وما بينهما من مسافات ودرجات، فهناك الموت والحياة، والليل والنهار، والشروق والغروب، والعمل والبطالة، ولكن ثمّة محطات بينهما هي بمنزلة الاستراحة، والاسترخاء والتأمل، والتخطيط، إن فُقدت بدت الحياة رتيبة مملّة، فكلا الحدين، وما بينهما من مسافات ينبغي لها أن تكون بقدر، ولا يطغى أحدها على الآخر، وإلّا كان الخلل والخروج عن الطبيعة الكونيّة والبشريّة. فالحل للخروج من حالة المجهول المتربص بالمرء بعد إنجاز ما، يكمن بالتخطيط الدائم والأمل الباني؛ لتكون كلّ نهاية هي بداية جديدة، فلا يركن إلى فخ النهايات، وكآبتها؛ فما إنْ ينتهي من مرحلة حياتيّة حتّى يتجهّز لأخرى مقبلة، وأنْ يدرك أنّ هذا التنوع وهذا التبدّل هو من ضرورات الحياة؛ ليتجدّد النشاط والبهاء، وتستجمع القوة والمضاء، وما ذلك في أصله إلى أحد وجوه الإنجاز والبناء، إن كان بقدرٍ واصطفاء. إنّ تباشير العام الدراسيّ الجديد تشرق في هذه الأيام لتعيد نبض الحياة للمدارس والجامعات والمعاهد وللبيوت، إنّها عودة إلى الانتظام، والاستقرار، وتغيير كلّ المواعيد والمواقيت للطلاب والطالبات، وللمعلمين والمعلمات وما يرتبط بهم من أسرٍ وحياة وأسواق وطرقات، إنّها إشراقة البدايات التي تحافظ على وهجها عبر التخطيط، وفهم معادلة الحياة والآخرة التي اختصرها الأثر بالقول: اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا.