ردح من الزمن اغتربت الثقافة في الجزيرة العربية، ومعها أحسب أن روح الإنسان الحقيقية هي الأخرى اغتربت، وعلى هذا الاغتراب كان يعيش المجتمع حالة من الحنين لكل إرثه الثقافي والحضاري، لأن عطاء إنسان الماضي المتنوع كاد أن يتلاشى ويضمحل؛ فلا يكاد أن يرى على حقيقته، ليس لصغر حجمه، أو لقلة قيمته، بل لضبابية المشهد العام، وتزاحمه مع امتداد أفقه البعيد؛ فقد توارى بفعل تعامينا عنه في مسارات الحياة وتنوع آفاقها أو حتى غفلتنا عن واقعنا الحقيقي، وسجلّه الحافل، ومع تعاقب الزمن المتسارع في النصف الثاني من القرن الأخير للألفية الثانية التي ضجت بمتغيرات كثيرة تداخلت فيها ثقافات مختلفة ومتعددة (العولمة)، التي كانت جبراً على واقع الحياة اليومية في القرية الكونية التي اقتضت فيها المصالح وتوافقت مع بعض التطلعات، وحتماً في هذا الجزء من العالم لن نكون خارج المنظومة، وعلينا أن نتواكب مع كل المتغيرات وفي ذات الوقت نعي دورنا الريادي الذي شكّل وميضاً بارقاً في سماء المعرفة والحياة الإنسانية؛ وتحديداً هذا الجزء الكبير من أرض جزيرة العرب، المملكة العربية السعودية، الذي نضح بنور السماء وفاضت منه معاني القيم الإنسانية التي مثلها إنسان البادية في الجزيرة العربية، من نبل وشهامة وكرم وإيثار متوّجة بثمرة جهده لتكون مرتكزاً للحضارة الإنسانية، التي تهتم بحياة الإنسان وبكل جوانبها المختلفة، وما إن تداخلت الشعوب وبسطت العولمة رداء ثقافاتها، ظل ذلك الوهج ساكناً، وخلف أستاره الجمال والإبداع والتميز في رحلته التي لا تنتهي عبر الزمن، وثقافات متوالية متتالية مُكتنزة، تنتظر من يحرك رواكدها أو يزيح الستار عن وجهها المليح. ومع قوة الإنسان السعودي، وحضوره الثقافي، ظل هو الآخر يَحنُّ لكل أبعاد الماضي وتاريخه الزاخر، الإبل ومرابعها، الخيول ومراتعها البادية ومضاربها، وما تتشكل به الكثبان الرملية بسفوحها، وبما تمتد به البيد بفياضها من نبات الخزامى والسكب وغيرها حين تنف روائحها العطرية النفاذة وتعبق في المكان، وفي الغرب الحجازي حينما يرتفع صوت الأذان نصغي بوعي فلا نشعر إلا بلذة الاستشعار الروحي فتتداعى كل حقائق الوجود وثقافاته المتعددة والمتنوعة حيث المنطلقات الأولى بوادٍ غير ذي زرع التي شكلت مهد الحضارات وإرهاص النبوة، وفي شرقنا حين تهب نسائم واحات الأحساء نستمع إلى رقراق ينابيعها الصافية، وثمة على شطآن الخليج العربي تبرق في سماه الأصداف واللآلئ وأمواج البحر حين تصطفق في جنبات السفن وهي تمخر عباب البحر لتجارة اللؤلؤ ولجلب البضائع من أقاصي الشرق البعيد، وفي الشمال حيث العلا وملامح بئر هداج وسواقيها التي تتجلى فيها الثقافة والأبعاد الأثرية والتاريخية فخيرات السماء منحت أهلها الكف الندية ليتمثل فيها حالة الكرم الحاتمي وهناك تحيط بنا الثقافة والقيم من كل جانب، أما في جنوبنا الأشم لا تزال الحصون والقلاع فارعة في السماء والمدرجات الزراعية منتظمة كحبات الخرز التي تعبر عن حضارة الإنسان وتغلّبه على قسوة المكان، سلسلة جبال السروات التي كان لها حضور أفقي في معادلة الحياة وفي مسيرة البناء الحجري وتشكلاته، واليوم عامرة بالخصوبة ولا تعرف الجفاف وتحضر في أفق الثقافة العالمية بتنوعاتها ويتصدر المشهد القط العسيري بأشكاله الهندسية البديعة ولغة اللون الذي يعبر عن تذوق القيم الجمالية والمعرفية. إن كل ملامح هذه البيئات الثقافية المتنوعة كانت تنتظر من يشعل شموع النور بها لتتجلى ثقافاتنا وقيمنا وتشرق مرة أخرى لنلهم بها العالم الذي هو متعطش ظامئ، وآن لنا ولهم أن نرتشف من منهلها العذب، والعالم اليوم مشرئباً نحو السعودية متلهفاً لمعرفة تلك الثقافات التي أشرقت بجبين من النور لهذا العالم الذي سبق وأن مدّهُ في الماضي بعطاء لا ينضب وبجذوة قبس لن تنطفئ، فما إن تهيأت الظروف حتى خرج صوت مدوٍّ يحفّز لمستقبل ثقافتنا يتردد صداه في جنبات الجزيرة العربية وتجاوز إلى الأروقة السياسية العالمية في المحافل الدولية، لنعلن للعالم عودتنا من جديد وبقوة لنكون في أول الركب، نحمل مشعل الحضارة، وفي فترة قصيرة جداً ومرحلة متسارعة من عمر الزمن لنكون كما نستحق في قلب العالم ببعديه الثقافي والجغرافي، ولتكون رؤيتنا علامة نائرة في وجودنا المكاني والسياسي والثقافي والاقتصادي، بعد أن تحدد الزمن وُوُسم بلوحة جديدة لتكون علامة بارزة في ثنايا الحياة اليومية لنا ولهذا العالم، لا تغيب إلا عن من يريد حجب الشمس بغربال مكسور مع رؤية الوطن 2030 التي أطلق عنانها وكسر قيدها وفك رسن جماحها سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان - يحفظه الله - لتكون رؤيتنا مضيئة ومشرقة كما هي رايتنا التي أشرقت من قبل في جبين العالم ولنلج بهما معاً إلى العالم في الألفية الثالثة بحزم وعزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله-.. وإلى لقاء. عوضة بن علي الدوسي العلا مدينة غنية بالتراث والتاريخ والعراقة عالية نجد عبق التاريخ