من عادات العرب المرتبطة أنه يؤخذ على الرجل أن يأكل وبابه مغلق، فالباب المفتوح دائماً ما هو إلا وسيلة إعلان لدعوة الضيف ودلالة على رخاء وكرم أهل البيت، مثله في ذلك مثل النار.. قد لا يخطر ببال البعض تتبع تلك التفاصيل الدقيقة فيما تركه لنا الأجداد من تراث ومن حضارة، ذلك الشأن الذي يحفظ للذهنية العربية هويتها وملامحها التي تميزها عن غيرها من الشعوب، ولا سيما إذا تأملنا في كل تلك التفاصيل الدقيقة للغاية في حضارتنا وتراثنا المادي. فالتراث المادي هو ميراث الشعوب، وهو كل ما كانت تتكون منه الشخصية والمتمثل في تعاملها مع البيئة التي تحيط بشعب أو فريق من الناس، وهنا تتلازم حتمية تلامس المكان والإنسان وتدجين واستئناس المتوحش منها كلٌ في علاقته بالآخر. ولكي نتناول الثقافة المادية بالتحليل والتفسير حسب مجريات أبحاثنا فهذا يتطلب جهدا كبيرا ذلك لأن الثقافة، وهي: "مجمل الموروثات الإنسانية المادية منها وغير المادية والمحكومة بالبيئة الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية المحيطة بها وتدخل فيها كذلك الممارسات اليومية التي تكيف الحياة عامة والسلوك على وجه الخصوص"، ولذلك كان لا بد من تحديد مفهوم الثقافة المادية والتي سنتناولها بالنقد والتحليل، وهي" الشيء الملموس والمحسوس بوجه عام، أو بمعنى آخر هو تحويل المادة الخام إلى شكل محدد يخدم غرضاً لدى الإنسان" مثل الأبنية والمنازل، الحرف والصناعات الشعبية، أدوات العمل الزراعي، الأسلحة، الأزياء الشعبية، أدوات الزينة، الأدوات المنزلية، ثم الإضاءة وتطورها وغير ذلك. وعلى سبيل المثال فلسفة الباب وما له لغة مهمة يفهمها العرب فيما بينهم من لغات مجتمعية شفاهية غير مبرمة، فالباب ما هو إلا ثيمة متناهية الصغر كجزء من هذه الثقافة على سبيل المثال. فللباب مفهومه الخاص في بلاد الجزيرة عموماً، فالباب الكبير والمتسع يعطي دلالة مهمة عن قاطني هذا المنزل بأنهم من الأسر الثرية وذات المكانة العالية في المجتمع، كما أن الباب الصغير ينم عن تواضع الحالة الاجتماعية والاقتصادية أيضاً لأهل هذا المنزل، هذه الدلالة الصغيرة لها ما لها في الفرز التراثي المجتمعي فإذا ما وفد غريب عليه آن يعلم منزلة قطان هذا البيت من فهم بابه، الأبواب تُشيد واسعة وعالية لعلية القوم لكي تلج من خلالها الإبل والأبقار والأحمال، ولذلك فالغريب حين يفد إلى الحي يعرف منزلة قاطني المنزل من بابه فيختار الذهاب للأبواب الكبيرة لعلمه بيسر حال أصحابها. والباب عادة ما يُصنع من خشب عالي المتانة وغالي الثمن مثل خشب العِتم وهو أشد صلابة وأكثر مقاومة، ويتكون من "أصراف"، أي ألواح شديدة الاستقامة خالية من العيوب وترص هذه الأصراف جنباً إلى جنب حسب سعة الباب، وتوصل ب "الليمات" وهي مشابك حديدية تعمل على تماسك الألواح وتعطي منظراً ذا طابعاً خاصاً. كما يحتوي الباب في أغلب الأحيان على باب صغير بداخله لمرور الأفراد، ثم إن هذا المفهوم يساعد الغريب على معرفة مكانة قاطني المنزل فيدلف إليه في رحلته طلباً للضيافة، كما سبق وأشرنا. فالباب هو وسيلة إعلام لدعوة الضيوف الغرباء وبذلك لم تكن صلابة الباب وقوته وشدة منعته خوفاً من اللصوص كما هو معهود بوظيفة الباب الرئيسة وإنما كان له دلالة على مكانة القاطن ويُسر حالهم. وقد حُفظ في المتحف الوطني في الرياض باب صنع من خشب الأثل مكون من درفتين كل درفة مكونة من لوحين محموديين لها أربعة عوارض خلفية ثبتت كل عارضة بستة مسامير مقببة من الجهة اليمنى وثمانية من الجهة اليسرى، وقد سقطت بعض المسامير من العارضة السفلى، ويظهر على واجهة الباب إطار زخرفي محدد بشريط مزخرف بزخارف هندسية ونباتية، وعلى وسط الباب بين الدرفتين لوح خشبي صغير عمودي مزخرف بزخارف هندسية ونباتية محفورة ثبت على الدرفة اليمنى بستة مسامير صغيرة وفي الثلث الأعلى من الباب نقشت آيات قرآنية بخط النسخ البارز المتداخل بدأت بالبسملة من بداية سورة الفتح حتى نهاية الآية الخامسة منها؛ وذلك داخل أربع جامات في كل درفة جامتان فوق بعضهما نقش على الدرفة من بداية السورة كلمة (إيماناً مع) وأكملت باقي الآيات من كلمة إيمانهم حتى نهاية الآية الخامسة على الدرفة اليمنى ونص الآيات: محفور على الباب. ذلك دلالة على أهمية فلسفة الباب في هذا التراث المادي وقد كان شاعر القبيلة "ابن مهرة شاعراً، وهو شاعر كبير يتوسل بشعره، فسأل إحدى النساء ذوات الأبواب الفارعة طعاماً فاشترطت عله أن يبدع في قصيدة ارتجالية في الباب نظير الطعام الذي سيناله، ولم يكن شحاً منها وإنما كانت تريد أن يمتدح بابها من قبل شاعر مثل ابن مهرة. فأنشد يقول: يا باب واردومك من الصر عتما وآرى لك أصراف سماح وليمات عين ابن مهرة من البكا صرعت ما والآدمي يصبر لحكمه ولو مات وبهذه الأبيات برزت أهم صفات الباب وأسرار صناعته، كما أن طالب الطعام لم يقصد باباً صغيراً متواضعاً لعلمه بحالة كل باب من شكله الخارجي. وهي لغة أبستموليجية عرفها العرب عبر التراكم الحضاري. فهذا الاهتمام الملحوظ بالأبواب وما له من دلالات ومعانٍ، مضمرة ومتفق عليها ضمنياً تسري في وجدان المجتمع يرجع إلى ماضٍ بعيد في الجزيرة العربية كما نرى في هذا الباب المتحفي الذي يرجع تاريخه إلى الفترة: 1175ه / 1761م. في منطقة الأحساء. لم يكن ذلك المعنى والمفهوم للباب ولفلسفته حادث أو تاريخ حديث بل كان من عمق الإرث الثقافي المادي متوارث المفاهيم لفلسفة الباب قادم من عمق التاريخ، فنجد أبا الحسن ابن يعقوب الهمداني في كتابة صفة الجزيرة العربية يقول في وصف أبواب صنعاء -وهي كما أكد المؤرخون بأنها أول مدينة بنيت على وجه الأرض وأنها سميت صنعاء لأن سليمان عليه السلام حينما دخلها تعجب وقال ما أجمل صنعتها- "كان لمدينة صنعاء تسعة أبواب، وكان لا يدخلها غريب إلا بإذن، وكانوا يجدون في كتبهم أنها لها باب يسمى باب حقل، فكان عليه أجراس متى ما حُرِّكت سُمع صوت الأجراس من الأماكن البعيدة، وكانت مرتبة صاحب الملك على ميل من بابها، وكان من دونه إلى الباب حاجبان بين كل واحد إلى صاحبه رمية سهم، وكانت له سلسلة من ذهب من عند الحاجب إلى باب المدينة ممدودة وفيها أجراس متى ما قدِم على الملك شريف أو رسول أو بريد من بعض العمال، حُرِّكت السلسلة، فيعلم الملك بذلك، فيُرى رأيه" ومن عادات العرب المرتبطة أنه يؤخذ على الرجل أن يأكل وبابه مغلق، فالباب المفتوح دائماً ما هو إلا وسيلة إعلان لدعوة الضيف ودلالة على رخاء وكرم أهل البيت، مثله في ذلك مثل النار.. فالنار الموقدة في موقدها الخاص في المنزل دليل على الكرم أيضاً فيقال: "فلان لا تنطفئ له نار" ولا "يغلق له باب".