اعتدت دوماً في قاعة الدراسة الجامعية أن أطرح بعضاً من الأسئلة التي تثير التفكير لدى طلابي في الجامعة وأجعله محل نقاش بينهم ثم استمتع بنقاشهم العفوي وطريقة تفكيرهم حول موضوع ما سواء كان الموضوع مجتمعياً أم دراسياً أو يخدم تخصصهم وذلك لإيماني التام بأن مستوى التفكير لدى الطالب الجامعي قد وصل إلى مرحلة التفكير الناقد على وجه الخصوص وإلى مراحل من التفكير العليا بشكل عام!. كان سؤالي: هل أنت مؤثر فيمن حولك؟ طبعاً الجميع يشارك ويبدي كل حسب فهمه للسؤال وعمدت أن لا أشاركهم الإجابة حتى أترك مساحة رحبة في الحديث كل حسب قراءته للسؤال! البعض حصر تأثيره بين أصحابه كونهم يبحثون عنه إذا غاب ويسألون عنه إن تأخر عليهم! والآخر يقول: أهلي في البيت يعتمدون عليّ بشكل كبير في جلب الكثير من الأغراض المنزلية والمستلزمات وغيرها، أما أحدهم فيذكر أنه آخر العنقود من الأبناء والجميع يطلب وده ورضاه ويحرص على عدم إغضابه ولذا يرى أنه مؤثر في أسرته والبعض الآخر حلّق بعيداً عن المقصود، لكن تبقى الإجابات جميلة ومعبرة وصائبة وتبقى كلها اجتهادات تنبئ عن فهم محدود للتأثير فيمن حولك! لكن ما كنت أقصده بنقاشي وحواري هو الوصول إلى نقطة مهمة وهي محدودية الفهم لدينا في مدى تأثيرنا فيمن حولنا فهناك من حصر التأثير فيمن حوله من خلال جوانب حسية بسيطة يشعر بها سواء كانت مدحاً أو إطراءً أو ذكراً بين الناس وهناك من حصره بشواهد وبراهين قدمها وراهن على وجودها اعتقاداً منه بأنه يبقى مؤثراً كبيراً في مجتمعه كأن يكون مثلاً قد بنى مسجداً أو أنشأ حدثاً أو أسس عملاً يبقى شاهداً له! والحقيقة أن قوة تأثيرك في الآخرين ليست محصورة في جانب دون آخر؛ فهو مجال رحب وواسع يصعب أن يتم حصره في وقائع معينة أو أحداث محددة، ونحن اليوم نسمع بين الفينة والأخرى إطلاق لفظة (مؤثرين في السوشل ميديا) قياساً بكثرة المتابعين أو كثرة اللايكات وهذا من الخطأ فالتأثير لا يقاس بالمشاهدات وإنما بعمق الأثر الذي تركه سواء كان سلباً أو إيجاباً ويمكن قياس وملاحظة قوة التأثير حقيقة حال غيابه وفترة انقطاعه وكما قال أبو فراس الحمداني: سَيَذْكُرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهُمْ وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ قياس الأثر يتضح حقيقة وصدقاً حين يغادر شخص ما موقعه سواءً كان في منصب أو وظيفة ملأها نشاطاً وحيوية وإبداعاً فيحس من حوله بفقده وانقطاع أثره أو غياب أب أو أم كانا في البيت شعلة من الحيوية والإنجاز والنشاط فغابا وتركا فراغاً لا يمكن أن يسد وهكذا هم المؤثرون لا نشعر بمدى تأثيرهم غالباً إلا حين يغيبون عن الأعين ولذا قد لا تكتشف تأثير شخص ما إلا بعد موته حين يبدأ الناس الذين أحسوا بانقطاع تأثيره بتعداد محاسنه وآثاره الكبيرة! ولذا لابد أن يكون كل واحد منا ذا تأثير في من حوله ويترك بصمة في مكانه الذي حل به وما أجمل ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: (وكن رجلًا إذا أتوا بعده قالوا: مر.. وهذا الأثر) بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبر أن الذي ينفع الناس ويترك أثراً طيباً هو من الفضل بمكان فقال (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) فإذا نجحت في صناعة الأثر ونشر الخير ونشر العلم والمعرفة ومساعدة كل من يحتاج مساعدتك المادية والمعنوية فإنك تحفر بصمات مجد ينتظرك بشرط أن تكون قاصداً بذلك وجه الله سبحانه وتعالى وقد أخرج الترمذي وغيره عن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله، فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت». فهذا هو الأثر الباقي في الأرض والسماء، أثر يرقى بصاحبه ويسمو بروحه، ويبقى لآخرته، وكل واحد منا يستطيع صناعة هذا الأثر بطريقته وحسن أخلاقه ومعاملته الطيبة بين الناس.