يطرح الهم التعليمي ظلاله على جميع الأنساق الفكرية في المجتمع، إلا أنها تختلف في التأثر والتأثير، فعلى حين تسارع طائفة في البحث عن حل للإشكالية، يبقى كثيرون في خانة تبادل التهم. كان هذا منذ القدم وحتى الآن، ولعل أدبيات طلب العلم تمثل نوعاً من الإيجابية في قراءة أحوال المجتمع، ويبقى السؤال: ما مدى فعاليه هذه الأدبيات الفكرية، وهل استطاعت أن تصبح نبضاً للمجتمع؟ إذ إن أهم القضايا تكمن في كيفية تكوين الإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض. في البدء، لا شك في وجود المرجع والقاعدة الصلبة المؤطرة لأدبيات طلب العلم، وواضح أن ما عددناه في بعض المواضع خللاً راجعاً بالدرجة الأولى إلى هشاشة المنهج الذي يجري عن طريقه تفعيل هذه الخلفية لتكوين طالب العلم، أو إلى أثر البيئة والمجتمع على الشيخ أو الطالب، وليس - بالضرورة - يرجع إلى الخطأ في القاعدة إذ هي ربانية معصومة وهذا أدى في كثير من الأحيان إلى ولادة طالب العلم بشكل قسري لا طبيعي. ولذا رأينا ابن تيمية وهو العالم الموسوعي عندما يدعو إلى احترام تراث السلف لا يغفل بل يحث على الزيادة والإبداع فيه، بينما نرى أحد طلابه وهو ابن رجب يأتي ليحصر العلم كله في تراث السلف ويسم غيره بأنه لا خير فيه. فابن تيمية يثني بالدرجة الأولى على المنهج السلفي ولا يغفل النتائج، وابن رجب يثني على النتائج ويغفل عن المنهج، وهذان نموذجان من خلالهما نستبين أثر البيئة على توجهات النظرة للعلماء، وكيف يتم تقييم الجهود البشرية، وهذا يحيل إلى عدد من القضايا أحدها: الموقف من الاجتهادات البشرية المسلمة وغيرها، فعلى حين نجد ابن تيمية في فتاواه وهو يتحدث عن التصوف يشير إلى أن فوائد كثيرة موجودة في كلام المتصوفة والمتكلمين وغيرهم فيؤخذ النافع ويترك الضار، أقول: على حين ذلك فإننا نجد الزرنوجي في رسالته تعليم المتعلم يشير إلى أفضلية ألا يكون في الكتاب شيء من الحمرة لأنها من صنيع الفلاسفة لا صنيع السلف، وهذا فيه رؤية للأشياء من ثقب إبرة. وإذا أردنا أن نبحث عن منزلة الإنسان في هذه الأدبيات عامة، فإننا لا بد أن نشير إلى التصور الإسلامي للإنسان، اذ هو خليفة الله ومناط به إصلاح الكون وعمارة الحياة، وجاء الحديث النبوي دالاً على أن مخالطة الناس والصبر على أذاهم خير من العزلة في شعف الجبال، وإذا كان ذلك كذلك فما هو التصور الذي تقدمه هذه الأدبيات؟ وكيف تتعامل مع مادتها وهو الإنسان. في البداية نجد الماوردي في أدبه يؤكد على كون التعليم تأهيلا للفرد لصلاح دنياه وآخرته لأن باستقامة الدين تصح العبادة، وبصلاح الدنيا تتم السعادة ومن ثم فإن قيمة أي علم إنما تتحدد في مدى تحقيقه لهذه الغاية، ويؤكد الماوردي على أن الإنسان مدني بطبعه، وبالتالي فإذا كان يوجد من الحيوانات من تستقل بنفسها فإن الإنسان لا يستقل بنفسه، بل لا بد من المخالطة والمؤانسة، ثم نراه يتحدث عن ضرورة نشر العلم وخطورة منعه، وها هو ابن مسكويه يجعل من دراسة النفس البشرية وتأمل علاقاتها مقدمة للوقوف على التعلم والتعامل وأكد مراراً في تهذيب الأخلاق على أن الأنسان إنما يتطلع في كل مرتبة إلى التي تليها لأنه يتصور أن فيها سعادته وكماله، ثم نجد مالك بن أنس يلحظ بعين بصيرة حاجات المجتمع وذلك عندما رفض أن يلزم الخليفة الناس بكتابه الموطأ، ومثل هذا ما نجده عند الشافعي والخطيب البغدادي وابن تيمية من التأكيد على ضرورة قيام طالب العلم بدوره التوجيهي الإصلاحي، ولذا كثر في أدبياتهم الحديث عن آداب العلماء وما هو الواجب عليهم، ويعقدون في سبيل ذلك المباحث والكتب، مثل الفقيه والمتفقه للخطيب، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لابن تيمية بينما نجد عند غيرهم الإفاضة في آداب المتعلم والتأكيد على كونه ملكاً لأستاذه، وأيضاً نمو نزعة التهويل من المخالطة للناس والتحذير من ذلك، ولذا شاع في أدبيات هؤلاء حكم وأمثال من قبيل: لا تلابس الناس، وحظك من أذنيك يعود لنفسك وحظك من لسانك يعود لغيرك متناسين أن الله أخذ الميثاق على العلماء، وربما تركوا نصيحة الناس وإصلاح أحوالهم مما هو متحقق لأشياء متوهمة كالخوف من الشهرة أو فساد النية، فيروي عن بشر انه قيل له: الا تحدث، فقال: انا اشتهي أن احدث، وإذا اشتهيت شيئاً تركته. وقال سحنون: كان بعض من مضى يريد أن يتكلم الكلمة التي ينفع الله بها كثيرين، فلا يتكلم مخافة المباهاة، وتقدم الأدبيات أمثلة كثيرة للعزلة فعالم يموت أبنه ويصلي عليه ويسير معه حتى باب المسجد ثم يرجع ويترك الناس مشغولين به، وآخر يتعارض لديه درس شيخه وتجهيز ابنه ودفنه فيذهب للدرس ويترك ذلك للجيران، فيتحقق له ما أراده من المحافظة على العلم أو البقاء في المسجد ويقع في ما نهي عنه من اللجوء إلى معونة الناس وسؤالهم. والمحافظ المنذري كان لا يخرج من المسجد لا لعزاء ولا لهناء ولا لغيره الا للجمعة. وحين يورد الزرنوجي حكاية فخر الاسلام الارسابندي وأنه جمع قشور البطيخ الملقاة في مكان خالٍ وأكلها، فرأته جارية فأخبرت مولاها وحين دعاه لوليمة لم يقبل فخر الاسلام لخشيته من المذلة، فإن الزرنوجي يعقب هذا بقوله: وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يكون ذا همة عالية لا يطمع في أموال الناس، ويغفل الزرنوجي رحم الله عن التنبيه على ضرورة التكسب الشرعي، وأن يأكل المسلم من عمل يده، وعن مذلة طلبة العلم حين يصبحوا عيالاً على بقايا الناس. والإشكال هنا هو أن هذه الأدبيات لم تبق في كتب المصادر والتراجم والمناقب، وانما يعاد إنتاجها وتقدم في هذا العصر نماذج ووصايا لحفظ الوقت، كما نرى ذلك في كتاب قيمة الزمن عند العلماء لأبي غدة مثلاً، ومعلوم أن موقع الخطأ هنا يقع في إيراد نماذج وحكايات قد تبعث الهمة ظاهرياً، ولكنها تغرس نسقاً خفياً يكمن في عجائبية بعض المواقف مما يولد ردة فكرية حيالها، فيجري إيراد الحدث معزولاً عن رأي الشرع والعقل فيحدث اللبس، وهذه النصوص تغرس نوعاً من الربط بين العزلة ولوازمها وهذا إن صح بشكل معين فإنه إذا قدم كنموذج مثالي فإنه يبدو خاطئاً. ولعل من الدقة أن نمايز بين الاتجاهات في التنظير لآداب طلب العلم إذ إن المرحلة الأعلى من الدراسة النقدية للمنهج المعرفي في هذه الأدبيات هي الدراسة القائمة على التمييز بين المدارس الفكرية عامة. ففرق بين الأدبيات التي تنتجها مدرسة الفقهاء كابن حنيفة ومن ماثله ومدرسة المحدثين كابن حنبل، ولذا قال ابن عقيل كما في المنهج الأحمد للعليمي: هذاالمذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب أبي حنيفة إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سبباً لتدريسه واشتغاله بالعلم، فأما أصحاب أحمد فإنه قل فيهم من تعلق بطرف من العلم إلا ويخرجه إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم عن التشاغل بالعالم، وهذا نص دال على مدى الاختلاف في الغاية التي يتغياها العالم من علمه، وبالتالي سيكون الفرق واضحاً في الأدبيات التي تقدم للمريدين والاتباع، فنجد ابن عقبل يشير إلى أن فاعلية النص عند هذه الطائفة كامنة في الاتجاه إلى العزلة، وهي ما يمكن أن نسميه إيجابية الضد إذ إن النص الشرعي يثبت أن من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، وكان أحدهم أفقه عندما رأى أن الليلة التي يقضيها يغمر ويلين رجل أمه خير من الليلة التي يقضيها في العبادة، وعندما قيل لمحمد بن الحسن كما في تعليم المتعلم للزرنوجي : ألا تصنف كتاباً في الزهد قال: صنفت كتاباً في البيوع، وهذه إشارة منه إلى أن هيكلاً عاماً يتمثل في البيوع كما يتمثل في الزهد، وفرق أعلى مما مضى هو الحاصل بين مدارس الفقه والحديث من جهة ومدارس المتكلمين والفلاسفة من جهة أخرى كالأشعري والفارابي اذ ترتفع وتيرة الاهتمام بالعقل ودوره في صناعة الفقه الذي يقدم للمجتمع بوصفه حلاً لمشاكله، وهنا يخفت صوت المطالبة بالعزلة، ويرتفع الاهتمام بالعالم وأدبياته، ولا تبقى النية في العلم محصورة في إزالة الجهل عن الذات، وإنما تمتد لتشمل إزالة الجهل عن الجهال وإحياء الدين وإقامة الإسلام، وكان من أثر هذا المنحى الفكري الذي يؤكد على دور العقل، ما نراه عند غير الفلاسفة والمتكلمين كالرامهرمزي 360ه في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والواعي اذ يؤكد على ارتباط الفهم بالحفظ وانهما يكملان بعضهما، وها هو ذا الآجري 360ه في أخلاق العلماء يدعو إلى المناظرة، ويؤكد عليها الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، ويذهب ابن تيمية إلى القول بأن سوء الفهم هو الذي دعا الخوارج إلى القول ببدعة التكفير كما في التفسير من فتاواه وفرق آخر يكمن بين أدبيات مدارس الفقه والحديث من جهة ومدارس التصرف من جهة أخرى، فتنتج الأخيرة آداباً تنطلق من مبدأ أساس يقوم على ان الله خلق آدم على صورته وما دام أن ذلك كذلك وجدوا في الإنسان بعضاً من صفات الألوهية، وقدموا أدبياتهم خدمة لغرضهم هذا كما نرى شيئاً من ذلك عند ابن عربي في فتوحاته المكية إذ يرى أن الإنسان إنما صحت له الخلافة لأن الله أنشأه على صورته الباطنة، وحتى ندرك الفارق بين هذه التصورات نتذكر كلمة أحد علماء الهند وهو يقول عن ابن عربي: لقد وجدنا في الفتوحات المدنية غنية عن الفتوحات المكية، وفي النصوص ما يكفي عن الفصوص ويبقى السؤال المهم هو: إذا كانت الأدبيات تجيء بمثابة وصية الرائد الذي خبر الطريق فإن القلق المعرفي يبقى مستمراً في درس العلاقة التي تريد الأدبيات إقامتها بين طالب العلم بوصفه إنساناً والمجتمع من حوله، ومن ثم من يساهم في بناء الإنسان، هل هو المنهج التعليمي بفوقيته واختزاله لكثير من المشاعر الإنسانية في أيقونة معينة، أم هو المجتمع برحابته؟ * كاتب سعودي.