يشكل الأمن الغذائي هاجسا وأولوية قصوى للحكومة الصينية، لأن الجميع ما زال يتذكر بأسى بالغ مجاعة الصين الكبرى (1959 - 1961) والتي مات فيها جوعاً نحو 40 مليون صيني، وأدى ذلك عموماً إلى تغييرات جذرية في السياسة الزراعية، ولهذا اتجهت البلاد خلال العقد الماضي إلى تعزيز الاستثمارات الزراعية في الخارج، فضلاً عن تطبيق مبدأ الاعتماد على الذات، ولطالما شدد الرئيس الصيني شي جينبينج، على أن: «طعام الشعب الصيني يجب أن يصنعه الصينيون ويظل في أيديهم.. وعلى الجميع أن يتحملوا مسؤولية الأمن الغذائي»، ومن الطبيعي أن يطرح ضخامة عددالسكان في الصين سؤالاً حول الطريقة التي يحصل بها الصينيون على طعامهم، خاصة مع تقلص الأراضي الصالحة للزراعة في الصين، ويمكن القول إن الأمور تسير في اتجاهين متوازيين، الأول تشجيع الإنتاج الزراعي في الداخل، والثاني إيجاد موطئ قدم في أجزاء مختلفة من العالم بهدف تأمين الإمدادات الغذائية للداخل الصيني. وفقاً لوزارة الزراعة الصينية، فإن لدى الصين أكثر من 1300 شركة استثمارات خارجية في الزراعة والغابات ومصايد الأسماك بقيمة 27 مليار دولار، وتشمل الاستثمارات زراعة المحاصيل وتربية الماشية، وصيد الأسماك، والمعالجة، والآلات الزراعية، والمدخلات، والبذور، والخدمات اللوجستية في أكثر من 100 دولة، وخلال عام 2023، امتلكت الصين، 65 % من الذرة العالمية، و53 % من القمح العالمي، وعلى الرغم من اختلاف تقديرات مخزون الذرة في الصين، إلا أن هذه المخزونات تعد أحد عوامل ارتفاع الأسعار، فاكتناز الصين لهذه المحاصيل هو أحد أسباب ارتفاع الأسعار، ولا تزال الصين تحتفظ بأكثر من نصف مخزون الحبوب العالمي، وعندما تشتري الصين الحبوب بكميات كبيرة من السوق المفتوحة، فإن ذلك يؤدي إلى ارتفاع الأسعار العالمية بشكل أكبر، ويجعل من الصعب على الدول الفقيرة الحصول على هذه السلع، ولا شك أن حرب أوكرانيا كانت نقطة تحول للصين فقد أعادت التفكير اليقظة بشأن أنظمتها الغذائية، وبالتالي، أصبحت التكنولوجيا الزراعية عنصراً رئيساً في استراتيجية التكيف في الصين، حيث تشجع خطة الصين الخمسية البذور المعدلة وراثيا لتعزيز الإنتاج، وعلى الرغم من أن تغير المناخ تم ذكره في السياسات الوطنية، إلا أن حلول المشكلات الزراعية لم يتم وضعها موضع التنفيذ إلا في الآونة الأخيرة، ويبدو أن تطوير تكنولوجيا التكيف الزراعي قد بدأت للتو. يفرض التعداد السكاني الضخم للصين استيراد قرابة ربع إجمالي الغذاء الذي تستهلكه، ولهذا السبب أصبحت عمليات الاندماج والاستحواذ في الخارج وسيلة حاسمة لتحسين الأمن الغذائي والإمدادات المستدامة من الغذاء، ومنذ عام 2014، استحوذت مجموعة كوفكو الصينية العملاقة لتجهيز الأغذية، منذ عام 2014، استحوذت كوفكو على عدد من شركات الحبوب المتعددة الجنسيات، وهي تمتلك الآن مجموعة من الموانئ والمحطات ومرافق التخزين في مناطق إنتاج الحبوب الأساسية حول العالم، ومع حجم عمليات سنوية خارجية تزيد على 100 مليون طن، أصبحت المجموعة أكبر مصدر للحبوب والزيوت القادمة للصين من الأرجنتين، وأكبر مصدر لفول الصويا القادمة إلى الصين من البرازيل، وواحد من أكبر المصدرين من منطقة البحر الأسود، حيث تمتلك المجموعة الصينية استثمارات ضخمة في صناعة تجهيز الأغذية في أوكرانيا مثل مصانع زيوت طعام عباد الشمس. اثنتان من أكبر عمليات الاستحواذ التي قامت بها شركة كوفكو في العقد الماضي هما الاستحواذ الكامل على شركة نوبل أجري ومقرها هونغ كونغ مقابل 2.2 مليار دولار، وشركة تجارة الحبوب الهولندية نيديرا مقابل 1.8 مليار دولار، والتي حدثت في مراحل مختلفة بين عامي 2014 و2016، وقد استحوذت كوفكو بالكامل على مصانع في تشيلي وفرنسا وأستراليا والمملكة المتحدة ووكالة شحن في رومانيا، وليست هذه العمليات مقتصرة على شركة كوفكو فقط، بل قامت شركات زراعية صينية أخرى بتسريع عمليات الاندماج والاستحواذ الدولية خلال السنوات القليلة الماضية، حتى تستطيع تلبية الطلب الصيني الضخم للغاية، ولا يخلو الأمر من عقبات، حيث تواجه عمليات الاندماج والاستحواذ الدولية للصين مشكلات نتيجة تضارب وتسييس المصالح التجارية خاصة في أوروبا وأميركا. تتهم الاستثمارات الزراعية الصينية بأنها تسعى إلى الاستيلاء على الأراضي في الخارج، أي زراعة الغذاء في الخارج وشحنه إلى الصين، والواقع، أن الشركات الزراعية الصينية التي استثمرت بالخارج كانت مهتمة بإنتاج الغذاء في المناطق التي تتمتع بطلب قوي، فقد ظنوا أنهم إذا تمكنوا من الإنتاج الزراعي بتكلفة منخفضة وبكفاءة، فسيتمكنون من احتكار السوق أو تحقيق الربح، هذا بالإضافة إلى أن العقوبات الأميركية على روسيا وإمكانية تمديد العقوبات على قطاع التكنولوجيا الصيني، أدت إلى تحفيز بكين بشأن الاعتماد على موردي المواد الغذائية الأجانب، ومنذ تأسيس الصين، كان ضمان الأمن الغذائي لجميع الصينيين أولوية قصوى بالنسبة للقيادة الصينية، باعتباره نوعاً من السؤال الحاسم حول ما إذا كانت الدولة الحزبية تتمتع بالشرعية السياسية، وإذا كانت حرب أوكرانيا لم تثر مخاوف الصين بشأن نقص الغذاء، إلا أنها عجلت بها، فقد كان الغزو الروسي بمثابة تذكير للصينيين بأن الأمن الغذائي ليس موعودًا. أواخر التسعينيات، بدأت الصين استراتيجية «الخروج»، فقدمت حوافز للشركات للقيام باستثمارات في الخارج، بما في ذلك المجال الزراعي، وكانت سرعة الاستثمار في الزراعة في الخارج بطيئة ومليئة بالعقبات السياسية، ومع الحوافز التي تقدمها حكومات المقاطعات»للخروج»، فإن الشركات الزراعية الصينية المملوكة للدولة، أظهروا اهتمامًا بالحصول على أراضٍ في الخارج، على الرغم من أن بعض استثماراتهم لم تتحقق، لأن الشركات الصينية ظلت تكافح مع الأنظمة المحلية، وفشلت العديد من المشاريع المقترحة في الانطلاق، ولهذا، فإن إحدى أكبر وأوضح الاستنتاجات التي توصل إليها صناع السياسات في بكين هي أن هناك قدرًا كبيرًا من الحساسية السياسية تجاه شراء مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في الخارج. وبعد ردود الفعل الساخنة على أنباء الاستحواذ على الأراضي في عام 2008، حاول قادة الصين وضع الأمور في نصابها الصحيح بشأن الصفقات من خلال إخبار وسائل الإعلام الغربية بأن وزارة الزراعة الصينية لم تكن تقدم حوافز للشركات التي تشتري أو تستأجر الأراضي في الخارج، وفي السنوات التي تلت ذلك، بدأت الصين في تشجيع شركاتها الزراعية على التطلع إلى الخارج للتنافس مع تجار السلع الرئيسين، وشهدت هذه الدفعة استثمارات صينية في إنتاج الغذاء، بدءًا من تخزين الحبوب وحتى التعبئة والتغليف والشحن، وقد خلق هذا أيضًا مسارات جديدة للصين لتنويع مصادرها الغذائية العالمية، وقد لعبت «كوفكو» دورًا حاسمًا في سلسلة التوريد الجديدة هذه، حيث قامت بتأمين الوصول إلى الأسواق الرئيسة وإنشاء شبكة نقل لإيصال السلع من أماكن مثل البرازيلوأوكرانيا إلى آسيا، ومن خلال دمج والاستحواذ على شركات زراعية في الخارج، تكتسب الصين المزيد من السيطرة على عملية الإنتاج دون السيطرة على الأراضي بشكل كامل. في صفقتين كبيرتين خلال السنوات الأخيرة، اشترت شركة «شوانغوي إنترناشيونال هولدنجز»شركة «سميث فيلد فودز»، وهي شركة أميركية لإنتاج اللحوم، واشترت شركة «كيمتشاينا» شركة الكيماويات الزراعية السويسرية «سينجينتا»، واكتسبت الشركات المملوكة للدولة في الصين موطئ قدم في أميركا اللاتينية، حيث أصبحت شركتا «كوفكو»و»كيم تشاينا» رائدتين في صناعاتهما في البرازيلوالأرجنتين، وقد أُطلق على المشاريع الزراعية الدولية مسمى «طريق الحرير الغذائي»، تشبيهاً بمبادرة الحزام والطريق المتعلقة بمشاريع البنية التحتية، وتشمل الاستثمارات الصينية مشاريع التكنولوجيا الزراعية والتكنولوجيا الحيوية التي تنتج محاصيل مثل الأرز الهجين والقمح، وبمرور الوقت تحولت الاستراتيجية من الاستثمار في الأراضي الزراعية إلى تعزيز الوجود الصيني في سلسلة الإمدادات الغذائية، حيث ينظر الصينيون إلى هذه الاستثمارات على أنها أفضل طريقة لحماية الغذاء الصيني. تدق استثمارات الصين على طول سلسلة الإمدادات الغذائية أجراس الإنذار السياسي في الولاياتالمتحدة، ولذلك اقترح أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي تشريعًا يحظر على الرعايا الأجانب المرتبطين بالصين شراء الأراضي الزراعية في الولاياتالمتحدة، وذلك بعد أن استحوذت شركة أميركية تابعة لشركة صينية مملوكة للقطاع الخاص على 300 فدان (121.4 هكتار) من الأراضي الزراعية في ولاية داكوتا الشمالية، وأثارت عملية الشراء، التي تم الاحتفال بها في البداية كفرصة لمدينة جراند فوركس الصغيرة، رد فعل سياسي عنيف جزئيًا لأن الأرض كانت تقع بالقرب من قاعدة عسكرية، وقد دفعت التوترات السياسية التي أثارتها عمليات الاستحواذ الصينية على الأراضي الأميركية، ووصفها باستراتيجية الاستيلاء على الأراضي، دفعت بالشركات الصينية إلى التركيز بشكل أقل على الأراضي، وبشكل أكبر على البنية التحتية في الولاياتالمتحدة. في عام 2023، تم تقديم ما لا يقل عن 81 مشروع قانون يحظر ملكية الصينيين للأراضي الأميركية في 33 ولاية، بزعم أنها تمثل خطراً على الأمن القومي، إلا أن المساحة التي تمتلكها الصين فعلياً في الولاياتالمتحدة تعتبر صغيرة نسبياً، حيث تمتلك الصين أقل من 1 % من جميع الأراضي المملوكة للأجانب في الولاياتالمتحدة، لكنها تبقى مساحة مستفزة للأميركيين، حيث تبلغ 12.8 مليون فدان، أي أكثر من مساحة ولايتي فيرمونت، ونيو هامبشاير مجتمعة، أما باقي الأفراد والكيانات الأجنبية فتملك حصة بنحو 40 مليون فدان، حيث يحوز المستثمرون الكنديون الجزء الأكبر بمساحة 12.8 مليون فدان، أي 31 ٪ من جميع الأراضي الأميركية المملوكة للأجانب، فيما تمتلك أربع دول أخرى 12.4 مليون فدان، وهي: هولندا(12 %)، وإيطاليا (7 %)، والمملكة المتحدة (6 %)، وألمانيا (6 %). وتملك الصين أقل من 1 %، بينما يتم تقسيم المساحة المتبقية البالغة 15.6 مليون فدان بين نحو 100 دولة أخرى، ومنها الهند والسعودية.