صحيح أنّ روسيا (بوتين) هي مصدر قلق الغرب ومحور الحركة السياسيّة الأوروبيّة والأميركيّة خلال هذه المرحلة، ولكنّ الراصد والمحلّل للاستراتيجيّات الغربيّة يدرك جيّداً أن أزمة أوكرانياوروسيا هي مسألة وقت وتنتهي حتّى وإن طال الزمن قليلًا، وسبب ذلك أن جذور الأزمة في أوكرانيا سببها الرئيس صلفٌ غربي (أميركي) نتج عنه إهانة روسيا وطموح رئيسها "بوتين" لاستعادة بعض وهج بلاده التي كانت ثاني القُوَى العظمى لأزيد من أربعين عامًا تلت الحرب الغربيّة (العالميّة) الثانية، ومن هنا فقراءة الواقع تقول إنّ كثيرًا من الشواهد تشير إلى أنّ ما يجري على روسيا بسبب حرب أوكرانيا ما هو إلّا "فرصة" لإجراء "بروفة" وتعديل سيناريوهات لما يمكن أنّ يحصل مع الصّين ولكنّ على مستوى أكبر. إذاً لا يمكن تجاهل فكرة أنّ الصّين تعدّ وجهة بوصلة التخطيط الغربي ومحور استراتيجياته، التي تركّز حاليًا على البعد الاقتصادي، في مواجهة خطط الصّين وتوسّعها الهائل للسيطرة بواسطة مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق التي تكّون صُلْب استراتيجيّة الصّين لبسط نفوذها الاقتصاديّ عالميًا. وفي مجال المواجهة الاقتصاديّة هنا يستمر الغرب في فرض الرسوم الجمركيّة والعقوبات على بعض الواردات الصينيّة، وتقليل الاعتماد على التصنيع الصيني بتنويع سلاسل التوريد، وتشجيع الشركات على نقل الإنتاج إلى مناطق أخرى. ويمثّل الأمن السيبراني والتقنيات الدفاعيّة خطرًا كبيرًا على الغرب خاصّة وأنّ الصّين تقود هذا المجال حاليًا وتطمح إلى أن تصبح رائدة عالميّة في مجالات التِقَانَة الفائقة مثل: الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس والحوسبة الكميّة. في المقابل تفرض دول الغرب مزيدًا من القيود على الاستثمارات الصينيّة في القطاعات الحساسة بدعوى حماية المصالح الأمنيّة الوطنيّة، ولهذا حظرت الولايات المتّحدة وبعض الدول الغربيّة أو قيّدت تعاقداتها مع عمالقة التِقَانَة الصينيين مثل: هواوي وZTE بدعاوى الخوف من التجسّس وحماية الأمن القومي. وقد زادت دول غربيّة عدّة من نفقات تسليح وتحديث الجيوش بذريعة الحرب الروسيّة الأوكرانيّة ولكنّ الحقيقة أنّ هذا سبب صغير والسبب الأكبر هو الاستعداد للمواجهة الكبرى المحتملة مع الصّين التي تعمل أيضًا على تحديث جيشها، وتأمين مصالحها وخدمة طموحاتها الإقليميّة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، خصوصًا في بحر الصّين الجنوبي. وفي ومواجهة ذلك يواصل الغرب تعزيز تحالفاته العسكريّة ضمن الناتو ويقيم الشراكات الاستراتيجيّة مثل: الرباعي (الولاياتالمتحدة واليابان والهند وأستراليا) وAUKUS (أستراليا، المملكة المتحدة، الولاياتالمتحدة) لمواجهة نفوذ الصّين. على المستوى الديبلوماسي يحاول الغرب الآن إعادة بناء تحالفاته لمواجهة التأثير الدبلوماسي للصين التي تنشط في تفعيل قوّتها الناعمة، ودبلوماسيّتها لاستقطاب حلفاء جدد من آسيا وإفريقيَا، والإغراء المتدرّج لبعض الدول في النطاق الأوروبي (مثل: اليونان، المجر، بولندا، صربيا) ممن يبحثون عن بعض الاستقلاليّة أو ممن لم يجدوا الدعم الكافي من الأوروبيين. ويقوم الغرب من جهته بممارسة الضغط الدبلوماسي على الصّين فيمَا يتعلق بقضايا حقوق الإنسان في شينجيانغ، وهونغ كونغ، والتبت، ودعم الحضور الدُّوَليّ لتايوان. وهكذا يمكن القول إنّ الغرب يدير على الواقع بداية المواجهة الفعليّة مع الصّين ولكنّ بطريقة هادئة ومحسوبة حتّى تأتي الساعة الموعودة. مسارات.. قال ومضى: الحرب مثل النار لا عجب.. وأول زادها ذاك الذي جلب الحطب.