هناك تأثير لفن المنمنمات الشرقية في فنون غربية ليس في منهجية الحجم والكتلة، وإنما في مساحات الخط المسطح، وعلى سبيل المثال ما نجده في المدرستين التعبيرية والتكعيبية فكلتاهما تعتمدان على البعد الواحد وأغلب استلهامهما لهذه الخطوط المسطحة جاء من الفنون البدائية ومن رسوم الأطفال لاعتمادهما على البعد الوجداني والتسرب الانفعالي.. تعرف المنمنمات بأنها "الشيء المزخرف والمزركش وتستخدم الألوان المائية والذهب على الورق كتقنية لهذا الفن، ومن المعروف أن فن التصوير الإسلامي يشير بوجه عام إلى فن زخرفة المنتجات بالحضارة الإسلامية"، ولكنها في بعض الأحيان تستخدم في بعض الأعمال الفنية. ولفن المنمنمات مدارس ومناهج تختلف في تفاصيلها، إلا أنها تلتقي في دقة وحرفية وصغر تفاصيلها، وهي من أصعب أنواع الفنون التشكيلية التي تعتمد على التحليل لجميع عناصرها، وقد نفتقر في عصرنا هذا لهذا الفن الذي يتطلب براعة المصمم والفنان وتمكنه من أدواته تمكناً يجعله متفرداً في إعطاء معانٍ جمة في مساحة متناهية الصغر. ولقد برع فنانو العصر العباسي في هذا الفن وخلدوا لنا لوحات زخرت بها المتاحف الإسلامية خاصة في النسخ الخطية المذهبة، فاهتم بها الخلفاء وجمعوها في عاصمتهم بغداد، وقد ورد في بعض المصادر أن معظمها نهبت في حوادث نهب المكتبات! وفن المنمنمات في بداياته بالعقيدة، كما ارتبط بالفن الإسلامي والاحتفاء به وخلق جماليات دقيقة تليق بهذا المفهوم، والفنون الإسلامية جميعها ترتبط في مجملها بعصر مهم للغاية وهو العقيدة التي تجلو مفاهيم كامنة في خطوط هذه الفنون والتي اعتمدت كلية على البعد الثاني فقط بحيث يكون التشكيل مسطح الرسومات والشخصيات، ولا نعتقد أن ذلك من باب منع التجسيم فحسب، وإنما في الغالب أن هناك تأثراً خفياً يتسرب إلى الوجدان من خلال إثارة الخيال وتكملة الصورة من قبل المتلقي، فالعرب والشرقيون برعوا في إثارة الخيال، ولذلك كانت فنونهم مسطحة لا تحتمل النحت والبعد الثالث أو حتى الإيقاع، فالشرق قد ترك في نفوسهم ذلك العالم الزاخر بالتخيل واستفزاز المتخيلة لتكمل الأبعاد والمعاني كيفما يدركها المتلقي، كما أن لهذا الفن امتداد حضاري آركيولوجي لما نراه في الفنون البدائية والنقش على الكهوف حتى أن الصحارى والجبال في بلادنا تزخر بنقوش على الأحجار والجبال لحيوانات ونباتات وغير ذلك يجمعها كلها الرسم المسطح غير ذي عمق منحوت. وإذا ما عدنا لفن المنمنمات فإننا نجده يخضع لهذه الخاصية لما تميز به الفن الإسلامي من نقوش ورسوم ومخطوطات أبهرت العالم إلى يومنا هذا. وفي هذا السياق تشير الباحثة في الفنون الإسلامية الدكتورة إيناس حسني من مصر، إلى أن "المنمنمة هي فن التشبيه وطبيعة الحياة الباعثة للتأمل والخيال، الذي يتمثل في الحقائق الدينية والعناصر الأسطورية القديمة، وفن المنمنمات الإسلامية استقى بعضاً من جذوره وروافده من مدارس بيزنطية وساسانية ومانوية وصينية، وتركت هذه التأثيرات انطباعات عميقة ومؤثرة، خصوصاً لدى الفنانين من بلاد فارس، ولفن المنمنمات مدارس كثيرة، منها البغدادية والمغولية والتيمورية والصفوية والمملوكية والمدرسة التركية والهندية والمعاصرة". لعلنا نجد أن هناك تأثيراً لفن المنمنمات الشرقية في فنون غربية ليس في منهجية الحجم والكتلة، وإنما في مساحات الخط المسطح، وعلى سبيل المثال ما نجده في المدرستين التعبيرية والتكعيبية فكلتاهما تعتمدان على البعد الواحد وأغلب استلهامهما لهذه الخطوط المسطحة جاء من الفنون البدائية ومن رسوم الأطفال لاعتمادهما على البعد الوجداني والتسرب الانفعالي، فقد قال (هربر تريد 1893-1968) وهو فيلسوف الفن التشكيلي: إن "البعد الخامس يكمن في الفنون البدائية وفي الخط العربي وفي فنون الأطفال". وهو ما بحث عنه في نظريتي البعد الخامس ومدى أثره في التلقي بالإضافة إلى عنصر العقيدة الذي يتسرب إلى الوجدان وهو ما تفرد به الخط العربي والفنون البدائية بالإضافة إلى إثارة الخيال، وهذا ما اعتمدت عليه هاتان المدرستان سالفتا الذكر، لما كانت تنفرد به فنون المنمنمات، كما في لوحات يحيى بن محمود الواسطي وهو أحد مؤسسي مدرسة بغداد للتصوير وأشهر الرسامين العرب والمسلمين في أواخر العصر العباسي، ورسوم كتب كثر منها كتاب كليلة ودمنة وغيرها؛ إلا أن هذه الفنون تطورت لتستقي من الفن الحديث فأصبحت تحمل رؤى وفلسفات على الرغم من صغر مساحاتها، وعلى سبيل المثال تلك اللوحة الحديثة التي رسمها الفنان الدكتور نبيل الحلوجي، وهو أستاذ وعضو هيئة التدريس بأكاديمية الفنون والحائز على جوائز عربية وعالمية على بعض لوحاته وتصميماته، هذه اللوحة نعتبرها تطويراً مائزاً لفن المنمنمة إذ تبلغ مساحة اللوحة 3 سم و8 مللي عرضاً؛ ونحو 7 سم طولاً، بألوان مائية مع جواش تمبرا على ورق كانسون وهي لوحة غائمة غير ناصعة لما يتخللها من ضبابية موقف الشخصية من العالم التي تمثلها امرأة مغطاة الشعر مستطيلة العنق تقف في حيرة متصارعة مع الخط واللون وعدد كبير من النقاط التي تواجهها وكأنها تلك المرأة العصرية التي تقف بين حدين من الحيرة بين الوضوح والسراب الغائم، واعتمد الفنان هنا على مركز اللوحة فجعله ذلك العنق المبالغ في استطالته وكأنها تريد الانفلات من أغلال تحيطها متطلعة إلى الانعتاق من تلك البقع التي تلتصق بها، كانعكاس لما يلحقه المجتمع بالمرأة على الرغم من شموخها الواضح في اللوحة واستطالة عنق، والعنق المرتفع والطويل في الموروث العربي هو دليل على السمو والرفعة والشرف. لكن هناك خط ثقيل يشكل نصف الكرة الأرضية يسحبها إلى الخلف، كل ذلك وغيره من كثير من التفاصيل متعددة القراءات داخل هذه المساحة الدقيقة والصغيرة للغاية وبزحمة ألوانها وتفاصيلها! يقول عنها الحلوجي: "بدأت برسم المرأة في مساحة رمادية مع رسم الكفين وتوقفت، عدت للورقة وأنا ألاحظها وسألت نفسي كفان تشيران في تكوينها لحالة آلية، جزء يشير للكل، ولن يكون غير إنسان، صلابة الأصابع لا روح فيها، ثم بدأت في سكب الألوان فبدت غارقة في حالة تشبه الغبار". هذه الأيقونة باذخة الثراء بريشة فنان مثل نبيل الحلوجي هي بداية تطور تؤرخ لتطور فن المنمنمة، فأخذ منها خطوطها ومساحتها ومسطحها الخطي، ثم حملها بفكر فلسفي يحمل في طياته رؤية عصرية للمرأة العربية العصرية من خلال فن المنمنمة.