إن هذه العلاقة بين النص والعرض المسرحي التي تحدثت عنها سيسلي، هي علاقة مخاض نص تتولد منه إبداعات المخرج وليس العكس، فعوالم النص هي ذلك القدح الذهني الذي يتجلى في العرض المسرحي على يد مخرج واعٍ مثقف، يخرج ما لم يره غيره من بين الكلمات.. تساؤلات تدور على الدوام، عن تلك الديالكتيكية المنشودة بين النص المكتوب عن طريق مؤلف مستقل معاصر أو قديم، وعن ماذا يحدث على خشبة المسرح؟ هذا أولاً، وثانياً: عمن أحق بالإبداع والنضج الفكري؟ هل النص المكتوب أم ما يقدمه المخرج في زمن معين؟ وجدير بالذكر أن هناك خمسة أزمنة للعرض المسرحي التي يجب أن نضعها في الحسبان وهي (زمن الكتابة، الزمن الدرامي، زمن العرض، زمن فتح الستار، وزمن التلقي، بالإضافة إلى تشظي الأزمنة في بعض النصوص والعروض التي تخضع لفلسفة ما بعد الكتابة وما بعد الكولونيالية التي لا تفارق منحى ما بعد الحداثة). ولكل زمن طرحه الفكري والفلسفي. فزمن الكتابة يختلف عن زمن العرض الذي يخضع للواقع والاحتكاك به لمعالجته، كما أن الزمن الدرامي يعود إلى مدة امتداد زمن الأحداث داخل الحدث الدرامي نفسه، أما زمن التلقي فهو مدة المشاهدة وما نمضيه من زمن أمام خشبة المسرح، وهو باختلاف زمن رفع الستار الذي يحدد المخرج بتوقيت معين. وقد عجبت من أحد المشرفين في إحدى الجامعات، إذ يطلب من الباحثة الاعتماد على زمن الطباعة وليس زمن الكتابة، وهو قول مجحف يخل بمقتضيات دراسة دكتوراه تعمل عليها الطالبة! والحقيقة أن النقد المسرحي يختلف كل الاختلاف عن النقد الأدبي والذي يخصص في نقد النصوص المسرحية، فالأول يبحث في جماليات اللغة، أما الثاني فيبحث في مصطلحات خاصة بالمسرح والتي لا ترد بالضرورة في النقد الأدبي تلك إشكالية كبيرة إذ يشتغل هذا الباحث أو ذاك بالمسرح لمجرد حصوله على دراسة في الأدب المسرحي، فللمسرح شأن آخر في هذا المنوال! هذا من ناحية تناول النصوص، ولذلك نعود إلى العرض المسرحي وتناول النصوص عبر الأزمنة والتي نلاحظ أن بعض المخرجين في استسهال بالغ يقدمون النص كما هو بالرغم من المخرج هو المفسر لكل كلمة ترد في النص بحسب رؤيته هو وطرحه الجديد الذي يفد النظارة ليس للفرجة فحسب وإنما لما يطرحه المخرج من رؤية وفلسفة تخرج من بواطن النص الذي هو الملهم الأول لهذا المخرج، وبالتالي فإن أهمية النص لا تقل أهمية من الطرح الفكري وإن تعددت الرؤى لنص واحد فذلك يرجع لآفاق المخرج وخياله ولعبقرية النص في نهاية الأمر وبهذا تنتهي إشكالية النص أم العرض التي أدار رؤوس المتسائلين. يقول (ميشيل أتينبورو Michael Attenborough) عن سيسلي بري المخرجة المعبرة عن فرقة شكسبير الملكية التي ظلت تعمل على ما يربو من الخمسين عاماً مع أعاظم الممثلين والمخرجين، حيث إنها من أعظم المعلمين قدرة على التعبير في عالمنا هذا في إنجلترا وفي سائر أنحاء العالم: (بأن لها بياناً رسمياً صادراً منها عن عودتها إلى الكلمات ذاتها ومن الانطلاق بعيداً عن النظرة التصويرية المبالغ فيها والنظرة الحرفية المفرطة إلى اللغة وإعادة اكتشاف المعنى الكامن في الأصوات والإيقاعات". ومن هنا تتصدر الكلمة المشهد المسرحي والتي يترجمها المخرج سواء بالحركة أو بالإيقاع أو حتى بالظل والضوء واللون والكتلة والتشكيل في الفراغ وغير ذلك من الأدوات. فالنتح الفكري هو ما ينتج به النص أولاً، لكنه يخضع لعبقرية المخرج الذي يرى ما لا يراه الآخرون فيخرجه طرحاً مثمراً على الخشبة، ولذلك سمي بالمخرج ذلك الغواص في أعمق الكلمة بكل جمالياتها. ويقول عنها أيضاً (إدوارد بوند Edward Bond): "مع سيسلي لا يمكن الشعور إطلاقاً بوجود أي تظاهر أو ادعاء.. فلن تحس أبداً بأن عليك الارتفاع إلى مستواها، أو بأنها تنزل هي إليك.. فهَمُّها كله هو العمل الذي تقدمه.. إن سيسلي تربط اللغة بالخيال.. فإذا بك تحس أن اللغة تتسلل داخلك" فإذا ما جزمنا إن العرض المسرحي هو فكر وفلسفة وطرح ثمار ثقافة وأفكار ما، فإنه تقمص ذلك الفكر في النص المسرحي يأتي من خلال كلمة صارمة ومسؤولة. وهي مسألة شاقة لا نراها في العديد من عروضنا المسرحية لغياب مدى ثقافة المخرج الذي لابد أن ينطلق من الكلمة الكامنة داخل النص ويدير مخيلته المبدعة التي لابد أن تعمل على الدهشة الممتعة، فنلاحظ أن أغلب المخرجين أصبحوا يختبؤون تحت ستار الصورة الرقمية بلا معنى اللهم لتلوين الصورة وتنوعها، وهذا يحدث خللاً في تفسير الكلمة في أغلب الأحيان! فتقول سيسلي: "عن علاقة النص بالعرض إنها علاقة" تدور ببساطة حول زيادة وعينا بهذا الارتباط العجيب الرائع - وإن كان في الواقع أدنى من الإدراك - بين معنى الكلمات التي نستخدمها وبين صوتها وحركتها الفيزيقية المُتضمَّنة في صياغتها. وهذا يحدث عندما نتحدث في حياتنا اليومية بمثل ما يحدث في النص المكتوب سواء بسواء، نظراً لأن كل كلمة هي بمثابة فعل.. إنه تحرير الاستجابة اللاشعورية للممثلين والمخرجين وتحويلها تجاه الصوت المنبعث من النص، والعثور على طبقة أخرى أعمق من معنى السطح الحرفي.. إنها لا تزال هناك حاجة أولية داخل المستمع لإيقاع متناغم من شأنه أن يحرك مشاعرنا سواء إلى الابتسام والضحك أو إلى ذرف الدموع". إن هذه العلاقة بين النص والعرض المسرحي التي تحدثت عنها سيسلي، هي علاقة مخاض نص تتولد منه إبداعات المخرج وليس العكس، فعوالم النص هي ذلك القدح الذهني الذي يتجلى في العرض المسرحي على يد مخرج واعٍ مثقف، يخرج ما لم يره غيره من بين الكلمات، بل هو صاحب الرؤية التي يأتي إليه النظارة لقراءتها في ضفيرة واحدة بين الكلمة والعرض المسرحي بعيداً عن رقمنة العروض المسرحية إلا إذا لزم ذلك وكان ضرورياً لجلاء الكلمة وخدمة معناها.