ثمة اتفاق على أن دراسة الأنماط وسلالتها ليست مسألة زائدة عن الحاجة أو أنه ليس لها دور تنموي، بل إنها تمثل مصدرا مولدا للأفكار الجديدة التي تغذي الابتكارات المستقبلية.. خلال الأعوام الأخيرة عملنا، في قسم العمارة بجامعة الامام عبدالرحمن بن فيصل، على تطوير توجه أو مدرسة تحليلية لتفكيك الأنماط البصرية والثقافية والمهنية، في مجال العمارة على وجه الخصوص، وبالتأكيد دراسة الأنماط ليست جديدة بل هي متجذرة في أغلب الدراسات التوثيقية في العمارة والفنون واللغة وحتى الدراسات الاجتماعية، لكن نستطيع أن نقول إنها ليست معروفة أو لا تحمل تقاليد واضحة في أغلب المؤسسات التعليمية العربية ونادرا ما نجد دراسة جادة في مجال تصنيف الأنماط وتبويبها وتحديد سلالاتها، يجب أن أعطي برنامج الدكتوراة في القسم الفضل في تبني مثل هذا التوجه "الصعب" الذي يتطلب دراسات ميدانية وفلسفية عميقة ويحتاج إلى عمل جاد في جميع وتصنيف Taxonomy المادة الميدانية وتحويلها بعد ذلك إلى "لغة أنماط" يمكن قراءتها وتفكيك رموزها، يذكر رواد دراسة الأنماط وعلى رأسهم "كوينسي" َQuatremere de Quincy أن البشر لا يستطيعون العيش دون تطوير أنماط في اللا وعي واستخدامها لفهم العالم الواعي الذي يعيشون فيه، ويرون أن تصنيف الأشياء وتسميتها وتحديد وظائفها وألوانها هي عملية "تنميط" تجعل من العالم المعيش مفهوما ويمكن التواصل من خلاله. إذا ما اتفقنا أن البشر يولّدون الأنماط المادية والثقافية واللغوية عفويا وأنهم لا يستطيعون العيش دون امتلاكهم هذه القدرة العقلية التي لا يملكها مخلوق آخر وتحويل هذه الأنماط إلى لغة صامتة لها معايير ومحددات عامة أو كونية، إلا أن اكتشاف وفهم وتحديد هذه الأنماط وسلالاتها والمسار الذي مرت بها حتى تطورت وأصبحت أنماطا كاملة يتطلب دراسات فلسفية تحليلية وتفكيكية، وهذا ما نحاول أن نطوره في برنامج الدكتوراة، السؤال الذي فرض مثل هذا التوجه كان حول "أصول الأنماط" التي تحدد محتوى الهوية الوطنية السعودية، المادية وغير المادية، من أين أتت وكيف تطورت ولماذا تبناها الناس في فترة تاريخية محددة؟ وبالطبع الإجابة عن مثل هذا السؤال ليست بالسهولة التي قد يتصورها البعض، وإن كانت هناك إجابات لا حصر لها تكتظ بها وسائل التواصل الاجتماعي لكنها إجابات لا تستند على أي دراسة منهجية يمكن الوثوق بها، الهدف، إذا، هو بناء تقاليد منهجية تساهم في دراسة الأنماط، المادية وغير المادية، وسلالاتها بشكل عام وتلك المرتبطة بالحضارة الإسلامية والمملكة على وجه الخصوص. إحدى الدراسات التي يقوم بها أحد الطلاب تركز على تطور الأنماط المعمارية في إحدى المناطق في المملكة وقام بتطوير إطار فكري فلسفي لتتبع نشأة النمط وقدرته على توليد سلالة خاصة به، يتكون الإطار الفلسفي من أربع مراحل هي: الأصل ثم التحول وبعد ذلك الابتكار وأخيرا الاستقرار. التحدي الأكبر هو جمع المادة الميدانية في ظل عدم الارشفة والتوثيق الذي عانت منه العمارة التاريخية في السابق وضياع أغلب النسيج العمراني للمدن السعودية، مثل هذه الدراسات النادرة التي تحاول أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الخبرة الثقافية والاجتماعية والتقنية للعمارة السعودية التاريخية تحتاج الدعم وأن تقوم وزارة الثقافة بتبنها وإنشاء مركز خاص لدراسة الأنماط، المادية وغير المادية، لأنها تمثل الأصول والجوهر الذي شكّل النواة الإبداعية للهوية السعودية، إما الاستمرار في البيانات السردية والتحدث عن الهوية بشكل سطحي انطباعي فهذا لن يقودنا إلى شيء. يجب أن أقول إن الدراسة التي ذكرت في الأعلى في منتصفها، لكن الباحث توصل إلى وجود "سلالات كبرى" للأنماط و"سلالات صغرى" تتبع الكبرى وتعطيها التنوع الذي تحتاج له، هذه الدراسة تمثل بعدا آخر لفهم عبارة "التنوع داخل إطار الوحدة" التي عادة ما تذكر دون أن تُفسّر تفسيرا علميا مقنعا، وفي دراسة أخرى قام أحد الطلاب بدراسة الأنماط الثقافية المهنية لمكاتب العمارة في المملكة في الفترة الحالية، نشأت الفكرة من أن صناعة الأنماط ظاهرة مستمرة ولن تتوقف طالما أن هناك بشرا يملكون قدرة عقلية، فكما ذكرنا أن صناعة الأنماط هي مسألة عقلية تنظيمية، والإنسان لا ينفك عن تنظيم المحيط الذي يعيش ويعمل فيه، ركزت الدراسة على الرياض والشرقية وجدة واختارت ثلاث مكاتب، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، من كل منطقة وقام الباحث بدراستها "اثنوغرافيا" من خلال العمل (دوام كامل) في كل مكتب لمدة أسبوع أو أكثر (9 أسابيع بحد أدنى). لقد تواصل الباحث إلى وجود شجرة للأنماط الثقافية المهنية (غير المادية) التي عادة ما تتطور في المؤسسات المهنية وتؤثر بشكل كبير على إنتاجهم المهني، الدراسة فريدة من نوعها لأنها تصب مباشرة في فهم "الثقافية المهنية" والأنماط الثقافية التنظيمية التي تؤثر عليها. ثمة اتفاق على أن دراسة الأنماط وسلالتها ليست مسألة زائدة عن الحاجة أو أنه ليس لها دور تنموي، بل إنها تمثل مصدرا مولدا للأفكار الجديدة التي تغذي الابتكارات المستقبلية، يمكن أن أذكر مثالا مهما، ذكرته في عدة مناسبات سابقة، وهو أن المصنعين الإنجليز في الثلاثينات من القرن التاسع عشر اجتمعوا في قاعة "فكتوريا وألبرت" في لندن لمناقشة كيفية غزو الأسواق العالمية وجعل الناس تغير من الحرف التقليدية الوطنية إلى المنتجات الإنجليزية فقرروا دراسة أنماط الحرف والأسباب التي تجعل الناس المحليين يتمسكون بها وقاموا بتقليدها وتطوير منتجات مماثلة ونجحوا نجاحا كبيرا في تحويل كثير من الناس إلى منتجاتها الأكثر دقة والاقل تكلفة، هذا يجعلني أكرر أنه بالإضافة إلى التأثير الثقافي العميق لدراسة نشأة الأنماط وسلالاتها، فإن هذه الدراسات لها بعد اقتصادي منظور وغير منظور على المدى القريب والبعيد.