يمكن أن يعطينا الهرم التصنيفي للأشكال تصورًا ماديًا حول فكرة «الشكل المُجرّب» وقدرة المجتمعات على تصنيف المنتجات المادية التي تتعامل معها وتعبر بها عن هوياتها، وفي الوقت نفسه يبين لنا كيف أن «التجريب» نوع من «التطويع» للأشكال والمنتجات المادية لتحويلها من مجرد منتجات نفعية إلى منتجات رمزية تحظى بتطبيع اجتماعي عميق.. يدّعي المهتمون بالفنون والحرف وحتى العمارة أن هناك أشكالاً مادية يتم الترحيب بها من قبل بعض المجتمعات أكثر من غيرها، وهذا الادّعاء يثير الفضول حول الأسباب التي تجعل مزاج مجتمع ما يميل إلى أشكال ومنتجات وألوان أكثر من غيرها. سوف أعرّج هنا على بعض الأفكار التي طرحها طلاب وطالبات الدكتوراة في قسم العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، وبعض هؤلاء أنهوا أطروحاتهم مثل الدكتورة سارة المطلق التي طرحت فكرة «التطبيع الاجتماعي» للزخارف، فلماذا تحظى بعض الزخارف بحضور كبير في أماكن دون غيرها. تسعى فكرة «التطبيع الاجتماعي» إلى دراسة مسارات تطور الأشكال منذ نشأتها والتكيفات التي تمر بها كي تستجيب للذوق الاجتماعي العام. هذه الفرضية طرحت تساؤلاً مهماً حول «الشكل المُجرّب»، فهل هو منتج متكيف يستجيب للذوق الاجتماعي أم أنه منتج يساهم في تغيير الذوق العام ويرتقي به؟ لم تجب الدراسة على هذا التساؤل المهم لأن تتبع نشأة الأشكال ووصولها إلى مرحلة القبول الاجتماعي وتبنيها ومن ثم انتشارها على نطاق واسع كان هو الهدف، لكن الدراسة أشارت إلى أن ما يجعل المجتمعات تتبنى أشكالاً معينة هو وجود منظومة من التقاليد التي تتكيف بدورها كي تتقبل وتتبنى الأشكال الجديدة لكنها كذلك تهذبها وتطورها كي تلتقي معها في مرحلة معينة يحدث فيها «التطبيع الاجتماعي» لهذه الأشكال. إذا ما سلمنا بهذه الفرضية فهذا يعني أن الأشكال في حد ذاتها ليست هي المسؤولة لوحدها عن حدوث «التطبيع الاجتماعي» بل إن «منظومة التقاليد» التي يطورها المجتمع هي المسؤول الأكبر عن تطور «الشكل المجرب» الذي يحمل بنية قادرة على التطور والانتشار، ترى طالبة الدكتوراة حنان القحطاني أن الأشكال تنتمي إلى واحد من أربعة تصنيفات هي: الوظيفي والتزييني والزخرفي والرمزي، وهذه التصنيفات تصنع هرماً قمته الرمزي وقاعدته النفعي/الوظيفي، وأن الأشكال المجربة ترتقي سلم هذا الهرم، وعندما تبدأ مرحلة التطبيع الاجتماعي فإنها تصل إلى بداية التصنيف الرمزي الذي يجعل منها أشكالاً ذات خصوصية محلية بينما الأشكال الوظيفية أو حتى التزيينية تظل في مرحلة ما قبل بداية التطبيع الاجتماعي، وعندما تبدأ في المرحلة الزخرفية فإنها تصبح أكثر ارتباطاً بمنظومة التقاليد الخاصة بمجتمع ما. يمكن أن يعطينا هذا الهرم التصنيفي للأشكال تصورًا ماديًا حول فكرة «الشكل المُجرّب» وقدرة المجتمعات على تصنيف المنتجات المادية التي تتعامل معها وتعبر بها عن هوياتها، وفي الوقت نفسه يبين لنا كيف أن «التجريب» نوع من «التطويع» للأشكال والمنتجات المادية لتحويلها من مجرد منتجات نفعية إلى منتجات رمزية تحظى بتطبيع اجتماعي عميق. يمكن أن أربط هذه الأفكار بنظرية قديمة طرحها الناقد الإنجليزي «هربرت ريد» وهي «من النفعي إلى المقدس»، هذه النظرية قريبة من طرح حنان القحطاني، وإن كانت دراسات «ريد» عبارة عن سرد تاريخ للتحولات التي مرت بها الأشكال والمنتجات التي ظهرت في فترة تاريخية مبكرة وكيف مرت تلك المنتجات بمراحل التحول من النفعي إلى المقدس (الرمزي). لكن هذا لا يعني أن كل المنتجات يجب أن تصل إلى مرحلة المقدس أو الرمزي حتى تحظى بتطبيع اجتماعي واسع، أطروحة الدكتور يوسف السحيمي تركز على الكود الثقافي للمسكن السعودي المعاصر، وهذا الكود عبارة عن منظومة تقاليد مرتبطة بنشاطات بيولوجية واجتماعية ينتج عنها فضاءات ومنتجات، يتغير الكود الثقافي عبر الزمن فتتكيّف منظومة التقاليد مع التقنية وأنماط الحياة الجديدة لكن تبقى النشاطات البيولوجية والاجتماعية الأساسية لا تتغير (الجلوس والأكل والنوم وغيرها) لكن المنتجات تتغير كلياً نتيجة للتحولات الجديدة، هذه الدراسة تبين أن التطبيع الاجتماعي للأشكال والمنتجات مرن ويرتبط مباشرة بعوامل جوهرية تحدد التصور الذهني العام للمجتمع (من خلال منظومة التقاليد التي يتبناها في فترة زمنية محددة) والموارد المتاحة وأنماط الحياة الجديدة التي تحدد درجة تصنيف المنتجات، وهل هي في مرتبة النفعي أو في طريقها إلى المقدس. فكرة «التطبيع الاجتماعي» للأشكال والأفكار تقترب كثيراً إلى ما طرحه عالم الاجتماعي الأميركي «بارسونز» فقد وضع ما يشبه الهرم المكون من أربعة مستويات الذي وضعته «القحطاني»، لكن على مستوى تبني الأفكار يبدأ من اكتشاف الخطأ عندما تدخل الفكرة الجديدة ثم تكييف الفكرة إلى أقرب الأفكار الموجودة في المجتمع ثم البدء بتقبل الفكرة الجديدة وأخيراً تبنّيها. إذا ما ربطنا نموذج «بارسونز» بفكرة التطبيع الاجتماعي للأشكال سوف نصل إلى قناعة أن المجتمعات لا تتبنّى الأشكال والمنتجات فجأة بل إنها تولّد مقاومة داخلية للجديد وتعمل على تهذيبه حتى تصل إلى مرحلة تبنّيه. يمكن، إلى حد ما، أن نربط جميع هذه الأفكار بالأطروحة التي قدمتها أبرار القاضي حول «لغة الأنساق» فهي آلية لصنع الأشكال والحلول المجربة تؤدي في نهاية المطاف إلى توليد الأشكال الرمزية. لعلي هنا أذكر أن دراسة الظواهر المادية ذات الارتباطات الاجتماعية والثقافية تتطلب وجود مختبر فكري/ تحليلي، وهذا ما يسعى إلى تطويره برنامج الدكتوراة في قسم العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، كون العمارة إحدى أهم الظواهر التي تتشابك داخلها العديد من الظواهر المادية التي تحتاج دراسات جادة ومتأنية تستطيع الكشف عن الشخصية الثقافية العميقة للمجتمعات السعودية المتعددة.