إحدى الملاحظات المهمة التي قادت إلى فهم الفرق بين النسق والنمط في العمارة هي وجود أشكال بصرية متعددة لمشكلة وظيفية واحدة، النسق في العمارة غالباً ما يرتبط بالوظيفة بينما الثقافة والتقنية والمناخ هي التي تولد الأنماط التي هي في الأساس المسؤولة عن الهوية المعمارية.. يدور جدل منذ فترة طويلة حول الفرق بين النسق Pattern والنمط Type خصوصا في الدراسات العمرانية التي تشمل النسيج الاجتماعي / الثقافي والنسيج العمراني المادي (الفراغي والبصري)، يصطدم هذا الجدل مع تعريف كل مصطلح والمجالات التحليلية التي يشملها، فالمهتمين بالدراسات العمرانية يرون في النسق "حل" مجرّب اكتسب ثقة الناس عبر الزمن فأصبح حلا مستقرا يملك بنية جوهرية Innate Structure تمكّنه من التكيف مع الظروف الطبيعية والاجتماعية المختلفة، وبالتالي فإن النسق يمكن أن يولّد أشكالا متعددة يمكن أن نطلق عليها "سلالة". بهذا المعنى يصبح النسق حلا مجربا مستقرا في الذاكرة الجماعية لأي مجتمع قابل للاستعادة والتكيف مع ظروف التغيير الطبيعي والثقافي. بينما الأنماط هي الصور المادية التي يتمظهر بها النسق، أي أن كل نسق يولّد أنماطا مادية متعددة تشكل "السلالة" التي يمكن للنسق أن يولّدها. فمثلا بوابة المسكن هي "نسق" له بنيته الجوهرية التي تدل على وظيفتها في جميع الثقافات، لكن أشكال البوابات وصورها تختلف من مكان إلى آخر بل وحتى في نفس المكان وهذا ما نطلق عليها النمط الذي يشكل أحد الأعضاء في سلالة النسق الكبيرة. الحقيقة أن التعريف في الأعلى هو ما توصلت إليه عبر الدراسات المعمارية الأثنوغرافية التي قمت بها خلال الربع قرن الأخير وهو تعريف يختلف قليلا عما يراه الزملاء في "النقد الثقافي" الأدبي فالدكتور سعد البازعي يعرف النسق على أنه "انتظام مجموعة من الدلالات أو الإشارات اللغوية في بنية واحدة، وهذا يعني أن النسق مفهوم بنيوي لأن البنيوية نشأت للبحث عن عن الأنظمة الدلالية المضمرة سواء في اللغة أو النظم الاجتماعية / الثقافية". أحد أهم الفروقات بين مفهوم النسق في النقد المعماري والنقد الثقافي هو أن الأنساق في العمارة لها دلالات مادية ظاهرية تحمل صور بصرية وبهذا فهي تولّد سلالات من المنتجات المادية التي يجب أن تكوّن أنماطا تنتظم في عائلة النسق الكبيرة وتشير بشكل أو بآخر إلى الثقافة المادية التي ينتمي لها النسق. لكن يمكن أن نلاحظ أن مفهوم النسق يبقى "بنيوي" لكنه في حالة العمارة يمثل "حل وظيفي" أو "بصري" استقر اجتماعيا وثقافيا وأصبح جزءا من الذاكرة المستعادة التي غالبا ما توظفها المجتمعات لتبني حلول مقبولة ثقافيا على نطاق واسع. حاولت أن أبحث أكثر عن النقاط المشتركة بين تعريف النسق وتحديد حدوده بين النقد المعماري والثقافي فوجدت أن هناك فرقا جوهريا أساسيا ناشئا من طبيعة المجال العلمي لكل تخصص فالعمارة تتعامل مع المادة وتفسرها ثقافيا وهذه المادة هي عبارة عن فضاء وصورة ويوجد علاقات متشابكة بينهما داخل مادة العمارة الواسعة، بينما النسق في النقد الثقافي هو تعبير لا مادي قد يحمل أحيانا القدرة على تصويره ماديا لكن بشكل غير محدد بدقة، أي أنه حالة فكرية / ثقافية ينتظم فيها المجتمع وما ينتج عنه من لغة وأدب في نسق محدد قابل للتغيّر والتكيف والتطور. فمثلا بعض الأنساق المعمارية تحمل أنماطا متبوعة وأخرى تابعة، ويمكن اكتشاف هذا التراتب من فكرة الاحتواء فغالبا الأنماط المتبوعة تحتوي التابعة وظيفيا، وهذا ليس خيارا بل هو "فرض وظيفي" لا يمكن الخروج عنه وإلا تفكك النسق كحل مجرب ومستقر. لا أعلم إن كانت الأنساق في النقد الثقافي تحمل صفات قريبة من الأنساق العمرانية، لكن الأكيد أن هناك فروقات جوهرية بين النسق الثقافي المحض والنسق العمراني الثقافي. أحد الملاحظات المهمة التي قادت إلى فهم الفرق بين النسق والنمط في العمارة هي وجود أشكال بصرية متعددة لمشكلة وظيفية واحدة، النسق في العمارة غالبا ما يرتبط بالوظيفة بينما الثقافة والتقنية والمناخ هي التي تولد الأنماط التي هي في الأساس المسؤولة عن الهوية المعمارية التي تتميز بها كل منطقة تاريخيا. بنية النسق العمراني تكمن في الوظائف البيولوجية للإنسان فالبوابة نشأت لأن الإنسان يحتاج إلى المرور بين مكانين لكن عندما تقترن الحاجات البيولوجية بالثقافة والجغرافيا والتقنية تولد أنماط مادية مختلفة وكل جغرافيا وثقافة لها أنماطها لكنهم جميعا ينتمون إلى النسق العمراني المجرّب المرتبط بالحاجات الوظيفية. هذا التصور لم أجد ما يقابلة في النقد الثقافي الأدبي ربما لكون الحاجة الوظيفية البيولوجية يصعب تتبعها خارج النسق العمراني الذي نشأ أساسا ليلبي هذه الحاجات. الملاحظة الأخرى، واعتقد أنها ضرورية من الناحية المنهجية، أن النسق العمراني يتطلب منهج نقدي تفكيكي ربما يختلف عن النقد التفكيكي الثقافي فنحن في العمارة نفرق بين التفكيك dismantle في المنهج التحليلي الذي يتطلب تفكيك الظاهرة العمرانية من الناحية المادية للوصول إلى الأنساق التي تكون الظاهرة، وبين التفكيكية deconstructionism التي هي منهج فلسفي أصبح جزءا من الفكر والممارسة المعمارية في الثلاثة عقود الأخيرة. النقد العمراني التفكيكي إذا ليس له علاقة بقلسفة "جاك داريدا" بل هو منهج تفكيكي مادي للبحث عن الاتساق وسلالات الأنماط التي تكونها عبر الزمن ثم إعادة تركيبها وربطها بالثقافة، يمكن اعتبار هذا المقال محاولة لتقديم فكرة النقد الثقافي العمراني الذي لا يجد أصواتا كثيرة تدعمه في الخطاب الفكري العربي المعاصر.