أما تسمعون الناس يذكرون جيل الطيبين، ويتحسرون على قلوب الماضين، وألفة جيران ذلك الزمان، وقوة تعليمه، وسلامة القلوب فيه مع فقرها، وترابط الناس مع حاجتها، وكيف اختلف الحال في الحاضر الأليم ففرق وحدتهم، وامتلأت تلك القلوب الصافية بحب الدنيا فأخرج منها تلك السماحة، وغيب ذلك الإيثار، وملأها حسرة على فقدان ما يملكه الآخرون.. في صناعة أفلام الخيال وقصصها الخيالية، يتصور الكاتب أن الإنسان استطاع أن يخترع آلة تعيد الزمن الماضي، فينتقل إليه من الحاضر، فيغير بعض أحداثه، ليكون غير ما هو عليه الآن. ولا ريب أن هذه الخيالات أمنية كل مسرف ومسوف وعاجز ومتكاسل، أو من كان ماضيه يعج بالخطايا والسيئات، يود لو عاد به الزمن ليغير حاله اليوم ويمحو ذلك الماضي الأليم، لكن التمني لا يجدي مع الواقع شيئا، وما مضى لن يعود أبدا. وستبقى ذكريات الماضي جرحًا ينزف في أحداث الواقع، مهما كانت صفة ذلك الماضي، وربما كان الحنين إلى الماضي حنين الفاقد المتأسف عليه، يود لو عاد ليعيش السعادة التي يرى أنه قد فقدها في حاضره. أما تسمعون الناس يذكرون جيل الطيبين، ويتحسرون على قلوب الماضين، وألفة جيران ذلك الزمان، وقوة تعليمه، وسلامة القلوب فيه مع فقرها، وترابط الناس مع حاجتها، وكيف اختلف الحال في الحاضر الأليم ففرق وحدتهم، وامتلأت تلك القلوب الصافية بحب الدنيا فأخرج منها تلك السماحة، وغيب ذلك الإيثار، وملأها حسرة على فقدان ما يملكه الآخرون، وحقدا على غناهم، وحسدا على ما أوتوا من فضل الله، وانتشرت بينهم القطيعة، وشاع بينهم الهجران، وصار الناس يتلكؤن على الزلة، ويفرحون بالفضيحة، بعد أن كان العذر بينهم شائعا، والستر على المذنب شعارا. حالنا اليوم يشرح بواقعيته قول حبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم: فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم. كذا في البخاري ومسلم، وفي رواية: وتهلككم كما أهلكتهم. ولعل هذا هو السبب في الذي نعيش فيه من تقاطع وتدابر وتحاسد وغيبة وشماتة وبحث بل تنقيب عن الزلات، وغير ذلك مما جلبه لنا انفتاح الدنيا وإقبالها، وزادته اشتعالا ما يسمى بمواقع التواصل، التي زادت من قطع الأواصر، وتسببت في التفريق بين المرء وزوجه، وعاش الأبناء والآباء تحت سقف واحد متفرقين، واجتمع الأصحاب في مجلس واحد متباعدين، كل قد حنى رقبته متواصلا مع البعيد متناسيا جليسه القريب. مع هذا وغيره صار الحنين إلى الماضي يشتعل كلما تقادم بنا الزمان، وغدت ذكرياته غصة، والعودة إليه رغبة. وليت خيال الأفلام يتحقق، فيرجع الزمان الذي بكينا منه حينا، ثم صرنا نبكيه، ونحِنّ إليه، ولكن ليت لا تنفع، والتمني لا يشفع. ولو افترضنا جدلا أن الزمان قد رجع، وعدنا إلى ماضينا الذي نحِنُّ إليه اليوم، فما عسى حالنا أن تكون، هل يمكن أن تكون أفضل وأكمل وأسعد؟ يتوهم من ظنَّ ذلك، بل سنعود إلى الضجر، والتأفف، والرغبة في الغنى، والسعي إلى الدنيا، والتسابق إليها، بمعنى آخر، لن يتغير شيء مما كنا فيه، وسيصبح واقعنا اليوم تماما كما هو عليه الحال! لسنا نكذب في تمني الرجعة والعمل، إنما في صدق تغير حالنا إلى أحسن منها. فلنكن صادقين مع أنفسنا ولنترك التمني، تمنى عودة الزمان، لأن الزمان لن يعود، ولأن الزمان لو عاد لما تغير شيء من حالنا، سنبقى على ما كنا فيه من عيب الحاضر والثناء على الماضي، تسلية، مجرد تسلية. ولو كنا صادقين في أمنياتنا، فلنعتبر الزمان قد عاد، ونحن اليوم في الماضي الذي سيأتي بعده غدا، وهو المستقبل الذي يمثل اليوم ما كنا نرمقه عبر الأفق، ونتمنى وصولنا إليه، فهل يمكن أن نغير أحوالنا، ونغير ما بأنفسنا، لتتغير هذه الحال التي نشكوها ونتأفف منها، ونكثر ذمها. ألسنا نعيش الماضي بالنسبة إلى المستقبل، فلنغير ما لا نحب، ونستبدله بما نحب، فلنعد ذلك الترابط، وتلك الحميمية التي افتقدناها، فإن كنا صادقين في الرغبة في التغيير، فلنبدأ من هذه اللحظة، «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». هذا، والله من وراء القصد.