اتصلت عليه عبر الهاتف الثابت أوائل عام 1420ه، فسمعت صوتاً هادئاً يدل على اتزان وشخصية رزينة وتنطق بكلمات موزونة، عرّفته بنفسي وغرض الاتصال، وهو إجراء لقاء معه ونشره في المجلة العربية، فرحّب بذلك وسألني عن مشواري الصحفي والإعلامي، وكنت آنذاك لم يمضِ على دخولي عالم الصحافة سوى بضعة أعوام، فقال لي: أعطني رقمك وسوف أتصل عليك، لكن لظروفه آنذاك وسفره الدائم إلى خارج المملكة لم أحظ بمقابلة معه حتى سمعت خبر وفاته، لكنني نشرت تقريراً عن حياته بالمجلة العربية. كان اسم د. منير العجلاني -رحمه الله- منقوشاً في ذاكرتي منذ أن أحببت وتعلقت بالكتاب، قرأت كتابه عن تاريخ الدولة السعودية، تلكم السلسلة التي اشتهر بها بين المؤرخين والباحثين والقراء في المملكة، وبعدما حل بهذه البلاد، أكرمته القيادة العليا وعينته مستشاراً بوزارة المعارف ثم تقاعد واستقر في مدينة الرياض حتى توفي. في هذه السطور بل الكلمات والجمل نعرج على هذه الشخصية المتعددة المواهب، والذي تميز عن أقرانه ومعاصريه بالنبوغ والإبداع في الطرح العلمي والأكاديمي والثقافي والأدبي. وُلد د. منير بن محمد علي العجلاني في دمشق 1330ه -1912م-، وهناك من يؤرخ ميلاده في 1910م كما ذكر ذلك تلميذه المؤرخ عبدالغني العطري في كتابه القيم (عبقريات شامية)، تحدث العطري عن تعليم ودراسة شخصيتنا، وقد اُعتمد على كتابه؛ لأنه مؤرخ سوري، خاصةً من الأدباء والعلماء والساسة الذين عاصرهم والتقى بهم، حيث التقى العطري د. منير العجلاني ودرس على يديه في الكلية العلمية الوطنية، وكان يدرس الترجمة من الفرنسية إلى العربية والعكس، يقول العطري: إن شخصيتنا تلقى مبادئ القراءة والكتابة ثم نال الابتدائية في مدرسة الإسكندراني ومدرسة البخاري، وبعدها منح الشهادة الثانوية من الكلية العلمية الوطنية، وهي ليست كلية بالمصطلح الأكاديمي إنما هي ثانوية مثل مدرسة مكتب عنبر الدمشقية الشهيرة التي خرجت مئات العلماء وأرباب السياسة وممن نالوا مناصب قيادية في سوريا، فالكلية الوطنية كذلك تخرج منها الألوف من الطلاب، وبعدما نال د. منير الشهادة الثانوية وانتسب إلى كلية الحقوق طالباً منتظماً عام 1924م وتخرج منها 1928م. عالم قانون كان أغلب السوريين من الطلبة والتلاميذ عندما يكون لديهم طموح في مواصلة الدراسة العليا يرحلون إلى باريس؛ لأن اللغة الفرنسية كانت تدرس في المدارس السورية، لذلك نرى النخبة من المثقفين من سوريا لهم إلمام قوي بالثقافة الفرنسية، ود. منير العجلاني عندما استقر بباريس للدراسة قرأ الآداب الفرنسية، بل أتقن الفرنسية كأنه أحد أبنائها، ونال شهادة «الليسانس» في الحقوق بمعنى أنه درس الحقوق مرتين، وهذا من حرصه للاستزادة من العلم، وهو عالم القانون الذي أصبح فيما بعد من الفقهاء والعلماء فيه، بل من الذين يرجع إليهم في هذا العلم، ومع أنه مارس المحاماة في دمشق لكن لم ترق له هذه المهنة ولم يتول القضاء، وبعد أن حاز الشهادة الجامعية من باريس ظفر بالدكتوراه في الحقوق العامة والخاصة عام 1933ه. ولم يكتف د. منير بهذه الشهادات في القانون، بل حصل على شهادة في الصحافة من معهد الصحافة في باريس أثناء دراسته لنيل الدكتوراه، وحصل على شهادتين في فقه اللغة الفرنسية وعلم الاجتماع من جامعة السوربون، ولكفاءته وجدارته رشح بأن يكون أميناً لجمعية الثقافة العربية بباريس. رائد صحافي ورجع د. منير العجلاني -رحمه الله- وقد استقى من العلوم ونهل من الفنون واغترف من الآداب كافة، وهو عالم يبتغي نفع مجتمعه ويريد نشر علمه الذي استفاده خلال مسيرته، وما أن حل بوطنه سوريا حتى أراد أن يطبق ما درسه من القوانين فكان محامياً لكنه لم يخلق أن يكون ذلك المحامي. ود. العجلاني من رواد الصحافة، حيث درس الصحافة في باريس واستهوته منذ ذلك الزمن، وهو شاب متحمس يتوقد ذكاء، والحماس الوطني يجري في دمه، والصحافة آنذاك لها دورها الفعال المؤثر في المجتمع والرأي العام، ولها دور في تشخيص العيوب وطرح العلاج أياً كان اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً، وشخصيتنا ناقد ولا يهدأ ولا يحب المياه الراكدة، فكان قلمه سيّالاً في الصحف التي كتب فيها أو ترأس تحريرها ومنها صحيفة الجزيرة السورية، ثم انتقل إلى صحيفة القبس، وهذه الجريدة طوّر فيها كما يقول المؤرخ عبدالغني العطري، ثم بعد ذلك أسّس جريدة النضال مع د. سامي كبارة. وكان لشخصيتنا تجربة في العمل الحكومي لما كان في سوريا واعتلى أعلى المناصب والقيادات المهمة والحساسة، بل أسّس أول وزارة باسم وزارة الرعاية والشباب، وكان أول وزير لها، ثم بعد ذلك اختير وزيراً للشؤون الاجتماعية التي أصبحت بديلاً عن وزارة الشباب، وتولى وزارة المعارف أربع مرات وأصبح نائباً لرئاسة الوزراء، كما أنه مارس الأستاذية في كلية الحقوق وحصل على درجة أستاذ في كرسي الحقوق الدستورية. متعدد المواهب ود. منير العجلاني -رحمه الله- ليس مثقفاً فقط، بل هو عالم من العلماء وأديب من الأدباء ورائد من رواد الصحافة وسياسي من الساسة العرب، فهو متعدد المواهب، وألّف عدة مؤلفات متنوعة، خاصةً في تخصصه القانون الذي كان آية فيه، فكتب كتباً، وهي الوجيز في الحقوق المدنية، والوجيز في الحقوق الرومانية، والمختصر في حقوق الجزاء الخاصة، وعبقرية الإسلام في أصول الحكم، وكانت له محاضرات في الفقه الدستوري المقارن لطلاب فرع الاختصاص، وقد ألّف كتاباً في الحقوق الدستورية، وجمع مقالاته الأدبية بعنوان «أوراق»، وكان عضواً في المجمع العلمي بدمشق. تاريخ السعودية وعندما استقر د. منير العجلاني -رحمه الله- في المملكة العربية السعودية، وأكرمته القيادة وقدّرته حق قدره، وعرفت مكانته العلمية والرسمية، كان من وفائه لهذه البلاد أن يقدم لها خدمات علمية، فألّف موسوعة عن تاريخ الدولة السعودية بمراحلها، يقول المؤرخ سليمان بن عبدالرحمن بن رويشد عن د. العجلاني: في مجال شغفه بالاطلاع على تاريخ البلاد أدرك كما أدرك غيره مدى النقص الحاد في مصادر تاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية، فقدم للشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ -وزير المعارف آنذاك- مشروعاً لتلافي النقص الكبير الحاصل في تاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم أردف ابن رويشد عن شخصيتنا وعمله وسبب اتجاهه نحو تدوين وتأليف هذه الموسوعة، وأن المواد الأصلية لتاريخ الدولتين متوفرة وموجودة، لكن يحتاج الباحث والمؤلف إلى مواصلة البحث عن المراجع والوثائق والمدونات المطمورة في الداخل والخارج، الجدير بالذكر أن المؤرخ عبدالرحمن بن رويشد قد طبع مؤلفات د. منير العجلاني الطبعة الثانية، أقصد المتعلقة بتاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية، وكان زميلاً له بوزارة المعارف وبينهما تواصل، وقد أضاف عن شخصيتنا أنه بعدما نضجت تلك الفكرة أي فكرة تأليف تاريخ البلاد السعودية، وكُلّف د. العجلاني الكاتب والصحفي بمهمة تدوين تلك الفترة -المرحلة- التي لم تحظ باهتمام المؤرخين بتدوين تاريخ الأئمة السعوديين، وقلة المتخصصين آنذاك. تشجيع الفيصل وكان لتشجيع الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- الأثر الكبير في إنجاز د. العجلاني لذلك العمل الضخم الذي تم بكل إتقان ومهنية فذة، إلى جانب سيرة مفصلة بما وضع تحت يده من المراجع المحلية ثم ما حصل عليه بالارتحال في طلب المراجع النادرة، حيث قام بعدد من الجولات على عدد من المكتبات العامة والخاصة داخل البلاد وخارجها تساعده قدراته الفكرية وإتقانه لكثير من اللغات الأجنبية ولاسيما الفرنسية التي يجيد التحدث وإلقاء المحاضرات بها في المنتديات العلمية، وقد عثر أثناء بحثه على الكثير من الوثائق المفيدة، إضافةً إلى ما وضع بين يديه من وثائق أجنبية ومحلية تمتلكها الجهات المختصة. أمانة علمية وأثنى المؤرخ سليمان بن رويشد على عمل د. منير العجلاني قائلاً: لذلك كانت كتب الدكتور عن الأئمة الأربعة الإمام محمد بن سعود، والإمام عبدالعزيز بن محمد، والإمام سعود بن عبدالعزيز، والإمام عبدالله بن سعود آية لم يسبق إلى صنعها من كتب عن تأسيس الدولة السعودية في الدرعية، حيث عرّف الدكتور العجلاني بمراحل مكونات تلك الدولة، وتحدث عن وحدتها، وأسس دعوة الإصلاح فيها، حتى أصبحت هذه الكتب الأربعة مرجعاً يُرجع إليه في الحصول على المعلومات الوافرة عن تلك الفترة. لقد كان وصف ابن رويشد لشخصية د. منير العجلاني العلمية وما كتبه عن تاريخ الدولة السعودية الأولى منصفاً وموضوعياً وبعيداً عن العاطفة، وهو المؤرخ العارف بتاريخ هذه البلاد؛ لأنه شاهد عصر لما كتبه د. العجلاني في تلك المرحلة، وعالماً بالمراحل التي قطعها شخصيتنا إبان كتابته لهذه الكتب التاريخية، وما بذله من جهد كبير اتضح أنه عمل متقن وفي غاية الإجادة، فشخصيتنا من أوائل المؤرخين الذين اعتمدوا على الوثائق الأجنبية والمحلية في كتابة كتبه الأربعة. ولفت ابن رويشد إلى موضوع د. منير العجلاني -رحمه الله- وأمانته العلمية وأنه في كتبه الأربعة هذه هو يريد الحقيقة، وأن عمله هذا عمل بشري، لا يمكن أن يسلم من الأخطاء، أخطاء في المعلومات أو التحليل وليس في المنهج؛ لأن منهجه علمي ودقيق يستخدم المناهج الحديثة في كتابة البحوث التاريخية، لهذا قوبل كتابه ببعض الأخطاء من لدن بعض من لهم عناية بالتاريخ، فشكلت لجنة لتدوينها، فقام شخصيتنا من باب الأمانة والموضوعية بالإشارة لهذه الأخطاء ووضعها في آخر الجزء الأول، وعلق على هذه الملاحظات. عمل دؤوب والكتب التي ألفها د. منير العجلاني -رحمه الله- هي: الجزء الأول عن الإمام محمد بن سعود وعن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والجزء الثاني عن الإمام عبدالعزيز بن محمد، والجزء الثالث عن الإمام سعود بن عبدالعزيز، والجزء الرابع عن الإمام عبدالله بن سعود، والجزء الخامس عن الإمام تركي بن عبدالله، وألّف شخصيتنا كتاباً عن الملك فيصل -رحمه الله-، حيث كان يحضر جلسات الفيصل ويطرح عليه بعضاً من الأسئلة فيجيب، فتبقى هذه الإجابات في ذاكرة شخصيتنا، وأصدر كتابه فيما بعد كما ذكر ذلك المؤرخ ابن رويشد. وكتب د. فهد بن عبد الله السماري عن د. منير في صحيفة «الرياض» قائلاً: لا يكاد باحث أو مؤرخ يتناول تاريخ العربية السعودية في فترتها المبكرة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري إلاّ ويرجع في الغالب إلى ما دونه د. العجلاني في عدة أجزاء عن تاريخ البلاد العربية السعودية، ففي تلك المؤلفات الكثير من المعلومات والتحليل التاريخي المستند إلى الأدلة والآراء التي يحتاج إليها الباحثون عموماً في تاريخ الدولة السعودية. وذكر د. السماري أن لشخصيتنا جهوداً مشكورة إبان عمله بدارة الملك عبدالعزيز مستشاراً علمياً بها حيث أسهم في دعم الجوانب العلمية بها مع مجموعة أخرى من المتخصصين، مُقدراً هذه الجهود التأليفية لتاريخ هذه البلاد التي دونها، قائلاً: جهود د. منير العجلاني هذه وغيرها في توثيق تاريخ المملكة العربية السعودية مهمة وثمينة؛ لأنها نتجت عن مراحل طويلة من العمل الدؤوب وامتزجت بتجاربه المتعددة في القانون والسياسة والثقافة ومواهبه العلمية المختلفة المميزة، وهذه الجهود لابد أن تذكر وتشكر لفائدتها الكبيرة ومعطياتها للباحثين والباحثات -انتهى كلامه-. تحليل واستنتاج لقد كانت كتابات د. منير العجلاني -رحمه الله- في تاريخ هذه البلاد مدعمة بالوثائق والمراجع الأجنبية فتحاً كبيراً وعظيماً لكل من تناول تاريخ هذه البلاد، حيث أصبح يبحث عن هذه المصادر والوثائق التي لأول مرة يبثها هذا العالم المحقق المؤرخ، فكانت كتاباته في ذلك الزمن استثناء في الطرح التأليفي التاريخي، حيث التحليل لكل حادثة تاريخية والاستنتاج من هذا الحدث، وليس فقط مجرد سرد تاريخي كما هو السابق والسائد في التواريخ النجدية والتاريخ العربي والإسلامي القديم، ونحن نتفق مع د. السماري أن للثقافة القانونية تأثيراً على د. منير، فالقانوني المتمرس يحلل القضية التي أمامه ويفحص مكامن القوة والضعف فيها وكيفية المخارج القانونية لها والثغرات التي سوف يدافع بها عن موكله، وهكذا كان شخصيتنا، فقد وظّف خبرته في القانون في المسائل التاريخية، وبهذا تجلى إبداعه في التحليل والنقد والتفسير للمادة التاريخية. قدرة وجهد وأشاد المؤرخ والأديب عبدالله بن خميس بمؤلف شخصيتنا في الجزء الأول من كتابه تاريخ الإمام محمد بن سعود والمجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب قائلاً: هذا الجزء من مؤلفه عن بلادنا برهن عن موهبة، وأسفر عن قدرة، وعبّر عن جهد لا يتوفر إلاّ في د. منير العجلاني، فلقد ألمَّ بما ألّف عن هذه البلاد قديماً وحديثاً مترجماً إلى العربية أو غير مترجم، وارتاد المكتبات في أوروبا والشرق، ونقّب وبحث واستقصى، وجاء بحصيلة لمن يريد تقصي الحقائق واستيعاب الأخبار، ثم حاول أن يجمع أطراف البحث ويزاوج المعلومات ويقارن بين الأقوال ويستخرج الحقيقة بريئة من كل شائبة سليمة من كل شبهة، مضيفاً: الكتاب من أحسن ما أُلّف عن هذه البلاد -في نظري- إذا لم يكن أحسن ما أُلّف، وذلك من حيث استيعابه لجمل كثيرة من المصادر، إلاّ أن ابن خميس سجّل بعضاً من الملاحظات على كتاب د. منير العجلاني الجزء الأول ونشرها في الجزيرة ثم نشرت مع مقالات أخرى نقدية. لم يكتب مذكراته عاش د. منير العجلاني -رحمه الله- من أجل العلم والثقافة، وفي سنواته الأخيرة أصبح برنامجه ما بين باريسوالرياض، وأصبح بعيداً عن الأضواء والإعلام، مع أنه من أساطين الصحافة وأحد أساتذة الإعلام المقروء، والعجيب أنه لم يكتب مذكراته، وأعتقد أنه لو كتب لكانت زاخرة بالتجربة والمواقف والأحداث، فهو سياسي خاض غمار السياسة في سوريا وشاهد عصر للأحداث كثيرة في الوطن العربي، وبما يجب ذكره أن د. منير أول رئيس لتحرير المجلة العربية منذ عام 1395ه، واستمر عدة سنوات في رئاسة المجلة ثم استقال منها عام 1403ه، لكنه يُعد رائداً في هذه المجلة التي مازالت مستمرة الإصدار، وقد كتب في هذه المجلة الكثير من المقالات عندما كان رئيساً للتحرير فيها، منها مقالات تاريخية وتربوية، وقد قامت المجلة بإصدار كتيب عنه حينما رحل عن هذه الدنيا في شهر يونيو عام 2004م عن عمر يناهز التسعين عاماً -رحمه الله-، المرجع كتاب (عبقريات وأعلام) لعبدالغني العطري. د. منير العجلاني أديب ورائد صحافي تاريخ البلاد العربية السعودية «عهد التأسيس» للدكتور العجلاني الموافقة الملكية السامية على اقتراح د. العجلاني لإصدار مجلة ثقافية د. العجلاني أول رئيس تحرير للمجلة العربية إعداد- صلاح الزامل