من نافلة القول أن بعض السير عصية على النسيان، لما تحتفي به سطورها من منجزات سجلت حروفها في ذاكرة الخلود، وبقيت أثرًا دالاً على مكانة صاحبها.. ومن بين هذه الشخصيات التي كتبت أسمها في سجل الحضور الإنساني الدكتور منير العجلان الذي ولد في دمشق في العام 1912م، ودرس الحقوق في العاصمة السورية دمشق والعاصمة الفرنسية باريس، ليعود إلى دمشق في العام 1933م مساهمًا في مجال المحاماة ومدليًا بدلوه أيضًا في مجال الصحافة.. ولم يقتصر العجلاني على المحاماة والصحافة فمن نافذتهما دخل إلى عالم السياسة منضمًا إلى الكتلة الوطنية آنذاك، لينتخب نائبًا عن دمشق لأربع مرات، لكن عمله بالسياسة كلفه حريته، حيث اعتقل عدة مرات بسبب مواقفه المعادية للفرنسيين، كما اعتقل أيضًا في عهد حسني زعيم وأديب الشيشكلي بتهمة العمل لوحدة سوريا والأردن. اشتغال العجلاني بالسياسة أوصله إلى تولي وزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة المعارف أربع مرات، وفي العام 1955 تولى وزارة العدل. ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية متقلدًا منصب كبير المستشارين في وزارتي المعارف والتعليم العالي، كما رأس تحرير «المجلة العربية» منذ تأسيسها عام 1395ه حتى عام 1403ه.. ولقد أنجز العجلاني في مسيرته العديد من المؤلفات التي توزّعت بين القانون والمقالات الأدبية والاجتماعية، ومن بين هذه المؤلفات «عبقرية الإسلام في أصول الحكم»، و»الحقوق الرومانية»، و»الحقوق المدنية الفرنسية»، و»الحقوق الدستورية»، و»أوراق»، و»رجل من جلد آخر وقصص»، و»تاريخ البلاد العربية السعودية، الدولة السعودية الأولى»، و»الدولة السعودية الثانية».. ليكتب الموت آخر صفحات العجلاني في يونيو من عام 2004م بالرياض التي احتضن ثراها جسده. وكما تشير سيرة العجلاني الذاتية إلى أنه كان أول من تولى رئاسة تحرير «المجلة العربية» عند تأسيسها في العام 1395ه ولمدة سبع سنوات، فإن المجلة لم تغفل ذكرى رحيل العجلاني، حيث خصصت «كتاب المجلة العربية» من العدد الأخير ل»أوراق منير العجلاني» مصدّرًا بكلمة من رئيس تحرير «المجلة العربية»الدكتور عثمان محمود الصيني تحت عنوان «العجلاني وشهود الرحيل»، أشار فيها إلى أن: «للدكتور منير العجلاني رؤية متبصرة للأمور وحدس ثقافي وتاريخي وتربوي عبر كثير من المقالات والمؤلفات، وإنك لواجد في بعض المقالات التي نقدمها في كتاب المجلة العربية روحًا حيّة معاصرة كما لو أن المقالة كتبت للتو ولمّا يجف حبر مدادها، وتعددت اهتماماته وتشعبت موضوعاته فمن كتب ومقالات في سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم والتعريف به وترجمة ما كتبه المنصفون في الغرب عنه إلى فتح نوافذ على الآداب العالمية وتقديم ناشئة العربية إلى الناس مثل تقديمه للديوان الأول للشاعر نزار قبّاني (قالت لي السمراء) عام 1944».. ويشير الدكتور الصيني في مقدمة الكتاب إلى أن منير بدأ في كتابة أوراقه ومقالاته في المجلة العربية حتى انقطع عنها في عام 1403ه/1983م حين تفرّغ للتأليف والكتابة التحقيق. ووفاء لهذه الفترة الطويلة التي كتب فيها منير مقالاته أعادت المجلة العربية نشرها في هذا الكتاب متضمنة العديد من الفنون والعلوم، متمنيًا أن تحظى بقية مخطوطات كتبه بالطباعة والنشر، مع العناية بالمطبوع منها والمتعثر الحصول عليها بإعادة طباعتها مرة أخرى لما تحويه من علوم وفنون جديرة بأن تكون حاضرة في المشهد الثقافي والفكري.. بين يدي الأوراق يستهل كتاب «أوراق منير العجلاني» الذي يقع في 192 صفحة من القطع المتوسط بمقالة حملت عنوان «الإسلام أمام تحديات الفكر المعاصر» يشير فيه منير إلى أن الأديان كلها تقف اليوم في جانب واحد أمام تحديات المادية الملحدة، مستشهدًا بآراء بعض المفكرين والزعماء في الإسلام من بينهم جورج واشنطن، ورأي هكسلي، مبينًا موقف الإسلام أمام الحضارة الغربية، والمآخذ التي يرمي بها البعض الإسلام من تشجيعه للرأسمالية وحجره على المرأة وتحريمه للفنون الجميلة والعلوم الطبيعية التجريبية، مفندًا كل هذه المآخذ بالحجج الدامغة الداحضة لما تحمله من فرية على الإسلام. مؤكدًا في سياق حججه التي ساقها أن «موقف الإسلام من العلم خير من موقف أي دين آخر، لأن الإسلام كما يقول أوغست كونت، مؤسس الفلسفة الإيجابية والداعية إلى ديانة إنسانية، هو أقرب الديانات إلى الأسلوب العقلاني، وأبعدها عن الأساطير والخزعبلات والتعقيدات والمظاهر الكهنوتية، ولذلك حدد لأنصاره يومًا في الشهر على الأقل يطالعون فيه آيات من القرآن.. أما في مقاله «مواقف وبطولات» بأجزائه الثلاثة فيتناول فيه منير سيرة الإمام تركي بن عبدالله جد الملك المؤسس عبدالعزيز – رحمه الله -، بوصفه مؤسس الدولة السعودية الثانية، مشيرًا إلى أن تاريخه لم يكتب كما ينبغي، حيث يمضي العجلاني من ثم في منعرجات سيرة الإمام تركي وما قام به في حياته العامرة، معددًا جملة من التعريفات لمفهوم «البطل» واجدًا في التعريف الذي يقول «البطل أقل من نبي.. ولكنه فوق الناس، إنه لا يصنع المعجزات التي اختص بها الله أنبياءه، ولكنه يصنع أمورًا باهرة لا يصنعها غيره، ويحقق لقومه أو للدنيا ما كان يبدو مجرد حلم بعيد» واجدًا في هذا التعريف بغيته للحديث عن بطولة الإمام تركي، والملك عبدالعزيز يرحمهما الله. وتحت مقال بعنوان «شخصيات لا تنسى» يكتب منير عن الشيخ عبدالقادر المبارك، مشيرًا على أنه كان «زنجي اللغة.. أو فقه اللغة.. صُنع رجلاً»، واصفًا إياه كذلك بأنه كان «أعلم أهل بلده بفقه اللغة». ولئن كانت قضية المجامع العربية وما يعتري اللغة العربية من ضعف استدعى القائمين على هذا الأمر بسرعة البحث له عن حل فإن العجلاني وفي المقال الرابع من الكتب يقف «في موقف مؤتمر المجامع اللغوية في البلاد العربية» مستعرضًا ما دار في المؤتمر الأول لمجامع اللغة العربية الذي عقد بدمشق حيث يقول العجلاني: «يختلف أثر اللغة في النفوس باختلاف الأمكنة والشعوب، وباختلاف النظرة إلى اللغة، ولكننا نستطيع الجزم بأن اللغة العربية ذات أثر عميق في تكوين الأمة العربية، ولعل أبلغ تعبير عن تعلّق العرب بلغتهم وأثر لغتهم في قوميتهم هو: وصف العرب أنفسهم بأنهم (أبناء الضاد)، أي أنهم (أبناء اللغة العربية)، هي أمهم، وهم في ظل أمومتها أسرة واحدة، يحبونها، ويتحابون فيها..» ولا يبدو موقف العجلاني من اللغة العربية موقف المنغلق عليها، والداعي إلى إغلاق الباب دون تفاعلها مع اللغات الأخرى إذ يقول في خاتمة مقاله: «كانت اللغة العربية أجمل اللغات، ولكنها كانت تضيف إلى جمالها من جمال كل لغة، وتطبع كل شيء بطابع عبقريتها.. فإذا أردنا أن يدوم تعلّق الشعوب العربية بها وأن نستبقيها لغة التوحيد والتجديد؛ فينبغي لنا أن نسقيها دائمًا من نهر يتدفق.. من نبع لا ينقطع مدده.. وهذا عمل المجمع اللغوي، وعمل الشعراء والمفكرين..» ويرد العجلاني في المقال الخامس على أقوال المستشرق البلجيكي لامانس التي يشير فيها إلى أن العرب لم يفكروا في فتح الشام (سوريا)، وكانوا أقل من أن يتصوروا أنفسهم أكفاء لقتال الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، صاحبة الحضارة العريقة، والمدن المحصنة، والسلاح الكثير.. مشيرًا إلى أن هذا الزعم صادر عن «تعصب مقيت» لا يغير من وقائع التاريخ، ساردًا ما تم في فتح الشام بما ثابت في الوقائع التاريخية المحفوظة. ولم تكن أضرار المخدرات والخمر غائبة عن قلم العجلاني حيث تناول ذلك في مقاله السادس، ويستعرض في المقال الذي يلي ذلك ما قاله المؤلف الفرنسي الطبيب «موريس بوكاي» في كتابه «التوراة والإنجيل والقرآن والعلم» من أن القرآن الكريم هو الكتاب المنزل الصحيح، حيث يقول بوكاي: «كُتب المسيحيين واليهود المعروفة في الشرق بالتوراة والإنجيل لا تُقارن في صحتها بالقرآن؛ فالقرآن حفظه القرّاء في صدورهم كما أنزل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ودوّنت آياته في عهد الرسول متفرقة، ثم جُمعت في عهود خلفائه ودوّنت، فلا يستطيع أحد أن يشك في نص من نصوص القرآن، فهو حقًّا الكتاب المنزل من السماء.. أما الكتاب المقدس عن اليهود (أي التوراة ويدعونه العهد القديم أو العهد العتيق والكتاب المقدس عند المسيحيين ويتألف من التوراة والأناجيل التي أضيفت إلى التوراة ودعيت العهد الجديد؛ فليسا بمنزلة القرآن من حيث الصحة التامة..» ومن بين المقالات التي حواها الكتاب «التزيد أو عقد النقص»، و»القروي وعرائس البحر»، و»الدولة العظمى الثالثة»، و»كيف يصبح أدبنا العربي أدبًا عالميًّا»، و»لقطة عجلان»، و»عنترة في الأدب الفرنسي»، و»على هامش القضية الكبرى» مشيرًا في ذلك إلى القضية الفلسطينية بمراحلها المختلفة، ومقال عن «التاريخ يعيد نفسه»، و»حلم التقارب بين المسيحية والإسلام»، مبينًا أن حلم التقارب بين أتباع الديانات المختلفة أصبح اليوم حقيقة، حيث يقول: «كنا لسنوات قليلة نتهم دعاة هذا التقارب أو أكثرهم بأنهم أصحاب نيّات خبيثة تنطوي عليها نفوسهم، بينما تنطق ألسنتهم أو تكتب أقلامهم أقوالاً جميلة منمقة تستهوي مناظريهم وتوقعهم في شباك الكيد والغدر.. أما اليوم فقد حلت الثقة محل الشك، والأمن محل الخوف، وعرف الناس أن هناك حقًّا جماعة من المسيحيين – بينهم رجال دين – يدعون بإخلاص إلى تقارب بين الديانات السماوية عمومًا، وبين الإسلام والمسيحية بخاصة للوقوف جبهة واحدة أمام أعاصير الإلحاد والوثنية التي تجتاح هذا العالم...» كذلك يعرض العجلاني في مقالاته إلى «الهجرة وأثرها الحاسم في نشوء الدولة الإسلامية»، ليعود إلى الإمام تركي بن عبدالله مستعرضًا «أوائل أخباره»، ليختم الكتاب مقالات العجلاني بمقال حمل عنوان «قنبلة الإسلام الذرية.. متى تنفجر؟» إن المستعرض لجملة هذه المقالات التي حوالها كتاب «أوراق منير عجلان» يلحظ بوضوح نافذ رؤيته إلى جملة من المواضيع هي حديث الساعة، وطيها العديد من الآراء المثمرة التي من شأنها أن تكون نقاط منيرة لمن يتناول هذه الموضوعات ومن بين ذلك كيفية تطوير اللغة العربي، والتقارب بين أصحاب الديانات، والمجمع اللغوي العربي، وغيرها من الموضوعات الأخرى. بقيت الإشارة إلى أن الكتاب لم يسجل تاريخ نشر هذه المقالات.