نعم، لا زالت أجمل القصص التي قد تقرؤها على الإطلاق هي تلك القصص التي وقعت بالفعل على هذي الأرض، أجمل الحكايات هي التي تحكي عن أناس حقيقيين بظروف حاصلة وأحداث تجري أو جرت على ظهر البسيطة، أجمل ما يمكن أن يكتب على الإطلاق هي الكلمات التي تنطلق من الخبرات والحيوات التي كانت والأزمنة التي مرت بالفعل والأعاجيب التي حصلت بالفعل يومًا ما. لهذا كانت المجموعة القصصية "أصدقائي الموتى شكرًا" رائعة إلى هذا الحد! لطالما جذبتني قصص الأطباء بكل حال. فهم شديدو القرب من آلام الإنسان ووجعه، وقت نادر تسقط فيه الأقنعة ويخلو الإنسان أو يكاد من الزيف ومن سخافات ونزاعات الحياة، فالألم مصفاة تنقي صاحبها ولا تدع له متنفسًا للإنسان الذي كان قبلًا، كما أن قصصهم فيها من العجب والتشويق والعبرة وحتى الطرافة الشيء الكثير، الأمر الذهبي والبسيط في نفس الوقت هو هذا: أن القصص والأحداث التي تقع لأناس هذه الأرض التي تحصل طوال عقود وقرون دونما شاهد ودونما مدون يسجلها هي دائمًا أعجب وأغرب من أي قصة خيالية قد يتفتق عنها ذهن أبرع المؤلفين وأعظمهم، الدراما الحقيقية والبكاء والرومانسية والفراق وحتى الغموض الذي يحصل حقيقة لهو أشد حبكة وتشويقًا وهولًا وغرابة من أي رواية مختلقة قد تكتب يومًا. ولعل الخليط المثالي هو الذي يحوي كثيرًا من الواقعية وشيئًا من خيال قليل، فالواقعية وحدها صادمة عظيمة الألم ومملة في بعض الأحيان لذا حين تُعرض في صفحات كتاب أو على شاشة سينمائية تحتاج إلى هذا الخيال المختلق أو لمسة إضافية من الدراما أو الرومانسية، والأطباء حاضرون دومًا إلى جوار الموت يشهدون الخواتيم يشهدون النهايات على اتساع أنواعها وعميق آلامها لكن طبيبنا هنا ليس طبيبًا عاديًا بل هو طبيب الموتى، طبيب المشرحة، أكثر ما أعجبني هو إحساس الطبيب بأنه يتحدث لغة الموتى ويستطيع وحده نقل رسائلهم الأخيرة إلى عالم الأحياء، "كم من وفاة تتفق الشرطة فيها وأهل المتوفي والأحداث الأخيرة على أمور بعينها ثم يأتي تشخيص الطبي الشرعي ليغير كل شيء وينقل الرسالة الحقيقية على لسان صاحبها الراحل"! ماجعل الرواية جميلة وسهلة الوصول لقلوب قرائها هي اللغة اليسيرة المتبسطة ، فالكاتب يحكي لك كأنها يشاركك جلسة سمر ليلية، والحكاية ذاتها مشوقة للغاية وصادمة فوق كل تصور. "زينهم" هو اسم المسلسل الذي بُني على أحداث الرواية، وأكثر ما أعجبني فيه هو قدرة كتّاب السيناريو فيه على إحداث توافق ممتاز بين الرواية وأحداث المسلسل، فقصص الرواية استخدمت في قالب من الشخصيات المختلفة وأجيد توطينها في حلقات المسلسل، على عكس ما حدث مثلًا في كل العروض التلفازية المبنية على روايات العراب أحمد خالد توفيق حيث تكاد تخرج الرواية عن مفهومها وأحداثها وشخصياتها لفرط التمطيط والتغيرات التي تطرأ عليها ، حتى تتحول قصة رعب بسيطة وساحرة وجذابة لخوارق ومعجزات وتلافيف قصصية لا تنتهي !