تشي كلمة (الوهم) في معناها التداولي بكثير من السلبيّة؛ فتشير إلى الغفلة والغلط والسهو والزلل الذي قد يورد صاحبه مسالك الهلاك، فهو من الظنّ، و«بعض الظنّ إثم»، لكن هناك بعض آخر للوهم، وجوانب أخرى له، تكشف عن شيء منه أحداث يوميّة معيشة، ووقائع تاريخيّة مدوّنة، وربّما بعض الوصفات العلاجيّة النافعة؛ إذ من المعلومة أنّ ثمّة أدويّة تُعطى لبعض المرضى على سبيل الوهم، فيتحسّن في إثرها بعضهم، وهذا ثابت ومعروف في مجال الطبّ والصحة والعلوم. أمّا على المستوى الواقعيّ والتاريخيّ، فلو عدنا إلى جوانب أخرى من المعاني المعجميّة والدلاليّة لمفردة (وهم)، لرأينا أنّها تعني أيضًا: خطرات القلب، وتوهّمَ الشيء: تخيّله وتمثّله، سواء أكان في الوجود أم لم يكن، وقيل توهمتُ الشيءَ وتفرّسْتُه وتوسّمْتُه وتبيّنْتُه بمعنى واحد؛ قال الشاعر زهير بن أبي سلمى: وقفتُ بها من بعد عشرين حجةً فلأيًا عرفتُ الدار بعد توهّم والله عزّ وجلّ لا تُدرِكُه أوهام العباد، هكذا ورد بعض من وجوه معنى (الوهم) في لسان العرب، فأوهام القلوب قد ترى ما لا تراه أبصار العيون، فبعض الوهم يبدو وكأنّه البصيرة والرؤيا العابرة للواقع الماثل –الذي قد يكون سرابًا- إلى الواقع الأعمق والحقيقيّ غير المرئيّ في المنظور البصريّ؛ لذلك قد يكون الوهم أملًا، وهو بهذا يكون ذا معنى إيجابيّ، ليكون رؤيا لما لا يُرى، وتحقّقًا بالإمكان بلغة الفلاسفة قبل التحقّق بالفعل؛ ليمضي المرء مفعمًا بشعاعٍ من أمل: «فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل». إنّ الوهم بهذا المعنى هو وليد الفراسة والأمل، والتشبث بالحياة وبأسبابها، ولو كان الواقع خلاف ذلك، وهذا لا يعني بحال من الأحوال الانقطاع عن الواقع، والعيش بعالم آخر، فهذا قد يقترب من الاعتلالات النفسيّة، لكن ما يقصد، هنا، النظر إلى الجانب الإيجابي في الوهم، وكيفيّة استثماره على الصعيد الفرديّ في تحقيق التقدّم، مهما كان الواقع الماثل صعبًا، أو استثماره من قبل القائد، أو المعلم، أو الأب، أو الأخ، أو المؤثّر من دون تضليل وتزييف، بل بشحذ الهمم، والإيمان بالتقدّم والانتصار في دروب الحياة. من الأحداث التاريخيّة الشاهدة على توظيف الوهم في المعارك، والكيفيّة التي قَلَبَ بها موازين هزيمة محقّقة إلى انتصار ساحق، ما أورده صاحب الكامل في اللغة والأدب عن قصة حرب إبراهيم بن الأشتر، وعبيد بن زياد؛ إذ أوصى -قبل المعركة- ابن الأشتر بعضًا من خاصته في الجيش الذي وجّهه لقتال عبيدالله بن زياد بقيادة المختار بن عبيد، بأنْ دفع إليهم حمامًا أبيض اللون ضخمًا، وقال لهم إن رأيتم الأمر لنا، أي النصر حليفنا، فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا وكادت أن تدور علينا دائرة السوء، فأرسلوها (طيّروها)، إيهامًا للجند بأنّ الله عزّ وجلّ مؤيدهم بملائكة تأتي على صورة الحمام دون السحاب، وقد خطب في الجند قبل المعركة، وأخبرهم بأنّهم إن ثبتوا في المعركة فسيمدهم الله سبحانه وتعالى بملائكة غضاب، وهذا ما حصل حقًا بعد أن كادت الهزيمة تقع بجيشه، حيث نفّذ خاصته ما طلبه بإرسال الحمام في السماء، وكانت تلك الخطة أحد عوامل نصره النفسيّة، ومن الطريف في هذه القصة أنّ عبيد بن زياد حين سأل عن قائد الجيش القادم، أخبروه بأنّه ابن الأشتر، فقال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة؟ قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، مستهزأ به، فاستثمر هوايته في صغره، في معركته في كبره!! إنّه الوهم المنطوي على قدرة تحويليّة بإذن الله من المغرم إلى المغنم، ومن ثم بالتخطيط، والوعي العميق بالواقع، وبالقدرة الكامنة في النفس؛ فيحيل العجز إلى قدرة، وينفث في النفس البهجة، وينثر الأمل والتفاؤل في دروب الحياة.