ربما يكون الشعر من أكثر الفنون توغلاً في الحياة العربية منذ أقدم العصور حتى اللحظة الراهنة، فشكّل ذاكرة حافظت على الكثير من المآثر الحضارية والإنجازات العربية في مراحل مختلفة، فقد كان الشاعر الناطق الإعلامي لقبيلته وقومه والصوت الذي يعزز مكانتها ويدافع عن مآثرها بين قبائل العرب. وفي ظل التحولات الكبرى التي شهدها عصرنا الحالي، بتنا نشهد أصوات كثيرة بدأت تدعو إلى تخليص الشعر من مظاهره الاجتماعية، وصيغته التعبوية التي كانت سائدة قديماً، ليصبح الشعر المعاصر صورة للذات الفردية واندحاراً للذات الجماعية على صعيد تشكيل البنية الشعرية ومعمارية النصوص، وهذا ما بُنيت عليه سجالات طويلة حول انتقال ما نعت به الشعر من أنه (ديوان العرب) إلى الرواية لتحلّ محله في هذه التسمية المجازية. إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، عندما ينشغل كثير من النقاد والأدباء حول من يستحق هذا اللقب، هل نحن أمام صراع أجناسي يقتضي هزيمة نوع أو شكل لحساب شكل آخر؟ هل هذا السجال الثقافي هو من السجالات المجدية ثقافية وحضارياً؟ وربما تكون الثقافة العربية هي الوحيدة التي انشغلت بهذا الصراع وغذته أقلام كثيرة. وهذا ما يثير الفضول إلى القول: ما المسببات وراء سفك كل هذا الحبر في معالجة هذه القضية؟ ربما ينطوي هذا الصراع الثقافي على مسببات كثيرة لعل من أهمّها السبب النفسي الذي جعل ثقافتنا العربية السالفة حتى لحظات قريبة تعطي الشعر مكانة عالية في حياتها، وربما كان الفن الوحيد الذي كان حاضراً في كل تفاصيل الحياة، فعراقة الشعر وقدم حضوره في الحياة العربية جعله الأقرب إلى النفس العربية، ثم أتى حضور الرواية حديثاً ليشكل تكاملاً، ولا أقول تنافساً أو صراعاً، في تشكيل الصورة الثقافية العربية، على اختلاف مجالات كل منهما واختلاف تقنياته التي يظهر أنها ستتمازج في عصر النص المفتوح والتداخل الأجناسي. لاشك أن تشكيل الشعر لما عرف بمصطلح (ديوان العرب) وسجل مآثرهم وحياتهم يعود إلى فضل الشعر ودوره في تشكيل الهوية الثقافية عبر عصور طويلة خلت، وربما لازالت حاضرة، وهي إرث يتجلى في صور عدة، لعل أبرزها أنه كان حارساً أميناً للغة وللسانها، ومركز ثقل أساسياً في الحفظ عليها، ولا يمكن الإنكار أن هوية الإنسان العربي مرتبطة باللغة كونها الوعاء الجامع لقيمه وعاداته، والشعر أحد الأركان المكونة للغة والباعث على تواصليتها عبر العصور المختلفة، فالشعر كما يقول أحد النقاد: "ليس مجرد منتج مكتوب، أو سلسلة من الصور والأصوات، ولكنه أسلوب حياة" بكل ما يحمله مفهوم السيرة من معانٍ دالة على شخصية الشعر أو شخصية المجتمع. لاشك أن الشعر نقل إلينا قيماً كثيرة كالأمانة والعدل والوفاء والإيثار التي شهدناها عند شعراء كثر كحاتم الطائي والسموءل وعنترة وغيرهم ممن تلاهم في العصور اللاحقة، ثم بدأت في عصرنا تتغير بعض القيم الجمالية وتتحول في أساليب الصياغة من خلال تعزيز ذاتية المبدع، التي كانت استجابة لتطورات العصر الثقافية، ولا ينبغي النظر إلى هذه التطورات التي تشهدها الساحة الشعرية العربية على أنها تشويه لتلك الهوية، بل ربما علينا تغيير زاوية الرؤية فقط، لنلحظ أن كل تلك الصراعات والجدالات إنما تدل بقوة على قوة حضور الشعر في حياتنا، برغم زعم بعضهم أن شمسه إلى أفول، إن الصرعات حول الأشكال ووسائل التعبير وأنماط القصيدة، إنما هو في عمقه إعلان عن حضور الشعر في حياتنا، وأثره في تشكيل هويتنا الثقافية التي ينبغي أن تقوم على التعايش والتكامل بين كل أشكال التعبير، كما أن في ذلك إعلاناً صريحاً عن أن الشعر هو وجه الحياة الأجمل الذي لا يمكن أن يغيب عن الحياة، لأنه أداة تجميلها وإسباغ الروح والجمال عليها.