إن كتابة أي سيرة عمرانية تتطلب تضييق الفجوة بين ما يتصوره العقل وما تراه العين، لذلك من الضرورة بمكان تطوير منهجية علمية شبه "إثنوغرافية" تعتمد بشكل كبير على إعادة تركيب المشهد المعماري والعمراني حسب تطوره التاريخي بكل حضوره الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والتقني وحتى السياسي.. كتابة السيرة الذاتية يفترض أنها تعكس تجربة شخصية وغالباً ما تنقل هوية صاحب السيرة وأهم المنعطفات التي مر بها. إنها محاولة لعرض أهم القرارات وأهم الأفكار التي صنعت الشخصية، لذلك غالباً ما تكون هذه المنعطفات هي النقلات الكبرى في حياة كل منا والتي يرى كل منا أنها صنعت تجربته في الحياة. في الواقع إن هذه المقدمة هي محاولة للمقاربة بين كتابة السيرة الذاتية التي نعرفها وكتابة السيرة العمرانية لمدينة ما. عندما طرحت هذه الفكرة على بعض الزملاء قال لي أحدهم: وما الفرق بين كتابة السيرة وبين كتابة تاريخ المدينة؟ هل أستطيع أن أدّعي أن السيرة هي ليست مجرد تاريخ بل تتبع للأسباب التي صنعت عمرانها ورسمت ملامحها التي لن تمحى؟ أول الفروقات بين كتابة التاريخ وبين كتابة السيرة هو أن السيرة تركز على أسباب الوجود، وعن الأفكار التي صنعت الأحداث التي غالباً ما يسجلها من يكتب التاريخ على أنها سلسة من الأحداث المترابطة زمنياً. عند التفكير في كتابة فصول من "سيرة مدينة" تظهر المقاربة بين "الصورة البصرية" و"الصورة الذهنية" كأحد التحديات الجوهرية في كتابة هذه السيرة، فمن المعروف أن الصورة البصرية يمكن رصدها بأشكال متعددة. بينما تعتبر الصورة الذهنية المتحولة أحد الإشكالات المنهجية الأساسية في الكتابة النقدية التاريخية، فكيف يمكن إعادة بناء الصورة الذهنية العمرانية لمدينة الرياض في النصف الأول من القرن العشرين مثلاً، بل كيف يمكن بناء هذه الصورة في ستينات القرن الماضي؟ كل هذه التساؤلات نابعة من إشكالية منهجية في رصد الصورة العمرانية الذهنية حتى في الوقت الذي نعيش فيه، لأن هناك فرق بين ما تشاهده العين وما يتصوره الذهن، وهذا الفرق يضيق أو يتسع من شخص لآخر، لكنه في النهاية هو الذي يشكل مواقفنا من المنتج العمراني بشكل عام. من الجدير بالذكر أن الصورة الذهنية تعبر عن موقف المجتمع من العمارة والعمران في زمن محدد لكنها تعكس في الوقت نفسه القرار السياسي والحالة التقنية والاقتصادية، وهنا يمكن أن نتصور الصعوبة التي يواجهها تفكيك الصورة العمرانية الذهنية مما يعني أن كثيراً من الفرضيات سوف تدور حول هذا التفكيك. ولأن كتابة أي سيرة عمرانية تتطلب تضييق هذه الفجوة بين ما يتصوره العقل وما تراه العين لذلك من الضرورة بمكان تطوير منهجية علمية شبه "إثنوغرافية" تعتمد بشكل كبير على إعادة تركيب المشهد المعماري والعمراني حسب تطوره التاريخي بكل حضوره الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والتقني وحتى السياسي. من الواضح أن كتابة السيرة العمرانية للمدينة ليست مجرد "توثيق" للتطور العمراني بل هي منهجية تجمع بين "الإنثروبولوجيا" وبين المقدرة على تفكيك الصور العمرانية وإعادتها لأصولها ومنابعها، تتجلى الأنثروبولوجيا في ضرورة فهم المجتمع الذي يصنع ويستخدم العمران ويحوله أحياناً إلى رموز، وتتصاعد صعوبة الإنثروبولوجيا عندما يكون الهدف هو دراسة عمران مجتمع اختفى ولم يعد موجوداً، فيصبح الأمر في هذه الحالة إعادة تفسير الكيفية التي انتقلت فيها المنتجات العمرانية إلى منتجات رمزية ساهمت في خلق الصورة الذهنية للمجتمع في فترة تاريخية ما، حتى لو أن مجتمع تلك الفترة لم يعد يعيش في تلك البيئة. يبدو أن كتابة السيرة العمرانية للمدينة هي أقرب إلى البحث المتأني المتشعب الذي يرصد التاريخ والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتقنية لكن هذا الرصد يتمحور في المنتج العمراني. المنهجية "الإثنوغرافية" (الأداة الرئيسة في الدراسات الإنثروبولوجية) تركز على مسألتين: المسألة الأولى تهتم بالجانب المادي للعمارة والعمران ويمثّل هذا الجانب أهمية قصوى، فرصد العمارة وتشكّل الأمكنة العمرانية هو الهدف الرئيس وبالتالي تعمل منهجية الرصد الميداني للأمثلة المنتخبة التي تدور حولها سيرة المدينة على التتبع المتأني لهذه المباني والأمكنة التي ارتبطت بها. بينما تركز المسألة الثانية على الجانب غير المادي للعمران، فحتى نستطيع رصد الصورة الذهنية من الضرورة بمكان استعادة المعاني التي ارتبطت بتطور الأفكار المعمارية والعمرانية، وبالتالي المقدرة على تفسيرها وربطها بمصادرها وفهم أسباب نشأتها. ويمكن اعتبار البحث عن الجوانب غير المادية للعمارة والعمران هو الأكثر تحدياً كونه يتطلب بحثاً متعدد الطبقات سواء على مستوى إجراء المقابلات الشخصية لمن ساهموا في السيرة العمرانية للمدينة أو قراءة النصوص التاريخية والوثائق والمقالات والمنشورات وإعادة تفسير الصورة القديمة وقراءتها قراءة "إثنوغرافية" متأنية. إن مساهمة السيرة العمرانية من الناحية العلمية والفكرية تكمن في هذه القراءة المنهجية المتأنية لما وراء الصورة البصرية للسيرة العمرانية، وهذا في حد ذاته يفرض منهجاً نقدياً عمرانياً يتجاوز الفكرة المبدئية لنقد المحتوي العمراني المادي وهذا التجاوز كان بهدف ربط الصورة بالمعنى ورصد تطور المعاني من خلال رصد تطور الأفكار العمرانية في المدينة. يجب أن أذكر هنا أن أغلب هذه التساؤلات نشأت من تجربة لطلاب وطالبات الدكتوراة طلبت فيها من كل واحد منهم أن يكتب فصلاً من سيرة مدينة يعرفها ويعتقد أنه ملم بتفاصيل الأحداث التي صنعت عمرانها. اكتشاف الصعوبات المنهجية غالباً تظهر عند الاصطدام بالتحديات التي تواجه العمل في الميدان، فكتابة السيرة العمرانية ليست كتابة انطباعية أو سردية بل هي غوص عميق لفهم المدارات الفكرية والمهنية التي صنعت المدينة، وكيف تحولت تلك المدارات مع الوقت.