أكدار الحياة ولأواؤها لا تنقضي ولا تنتهي، فهي كبد خُلق في كبد (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وهذه سنة إلهية جاءت بها الآيات الكريمة والأحاديث النبوية، ورغم أن العالم اليوم يعيش حالة من النمو المعرفي والتقني والذي قرّب البعيد وسهّل العسير حتى عاش الناس اليوم حياة ملؤها الرفاهية والسعادة ففاض الخير بين أيدهم وكثرت الأموال في أرصدتهم إلا أنك تلحظ حالة عجيبة تَنْتَابُ كَثِيرًا من الناس، بل لو قيل: إنه لم يسلم منها أحد لم يكن ذلك مبالغة في القول ولا بدعاً من الحديث، لكن الناس فيها بين مستقل ومستكثر، إنها حالة ضيق الصدر وما ينتاب الإنسان من القلق والأرق أحياناً حتى تصبح الدنيا لديه وكأنها خرم إبرة لا يستطيع النفاذ منه. وذلك دليل أن الهموم لا تخفيها كثرة الأموال ولا المناصب؛ كما قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: "غموم القلب لا تواريها لذة مال، ولذة مطعم"، فترى بعضهم كئيباً كسيراً تتغير حاله، وتتنكر له نفسه، قد استسلم للشيطان بجميع أحاسيسه فَيُظْهِرُ لك من اليأس والقنوط والشكوى ما يغلق أمامه الكثير من أبواب الفرج والتنفيس، حتى إن بعضهم يوغل في الانقياد والتسليم ويكاد أن يُقْدِمَ على خطوات تغير مجرى حياته من طلاق للزوجة أو ترك للوظيفة أو انتقال عن المنزل أو هجر لأصحابه ورفاقه والركون إلى العزلة والجلوس وحيداً مشغول الذهن شارد التفكير يفكر فقط في وقت دخول ملك الموت من الباب وأنه أصبح قاب قوسين منه بل قد يصل الأمر في بعضهم إلى الانتحار والعياذ بالله. نعم، الهم أصبح اليوم هو السلطان الذي تسلط به الشيطان على عباد الله بل أوغل فيهم ولم يترك لهم مجرد التفكير حتى من الاستعادة منه، هذه الهموم كلها تنشأ من ضعف الإيمان والثقة بالله تعالى ومن سوء الظن به وعدم الاعتماد والتوكل عليه، وعدم الرضا بما قضى وقدر. والسؤال الذي يجدر بنا لكل مهموم قعيد حسير: لماذا الهم والحزن وأنت تحمل إيماناً صادقاً ويقيناً جازماً بأن لك رباً موصوفاً بكل كمال، منزه عن كل نقص، لا يبتلي عبده بما يضره أو يؤذيه، وأنه هو أرحم منك بنفسك، وتعلم أن ربك سبحانه قدّر لك كل شيء وأنت في بطن أمك وكل ما تجده اليوم هو مكتوب في اللوح المحفوظ وإن حدثوك بخلافه أو أرعبوك بنقيضه! ألا يعلم ذلك الذي مسه وصب الهم وضيق الصدر أن ما يصيبه من المشاق والصعاب هي سُنَّة الله في خلقه لم يسلم منها أحد من البشر كائناً من كان حتى صفوة الخلق صلوات ربي وسلامه عليه قد أصابه منها، فقد وجد يوم العقبة هماً من قومه يزن الجبال حتى إن الله بعث له جبريل عليه السلام يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين؟ أيها المهموم افرح وانفض عنك غبار التشاؤم وتيقن أن ما أصابك هو تكفير لذنوبك ورفعة لدرجاتك فقد بشرك بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" (رواه البخاري). علام تحزن وتهتم وقد أعطاك الله من النعم ما تخجل من ذكرها في مقابل حزنك وهمك وقلقك؟! نصيحتي لك -مهموماً أو مغموماً- أن لا تستسلم للشيطان ووساوسه وهمومه، وارجع مارس ما كنت عليه، إن كان لك رفاق فارجع وجالسهم وإن كنت في إجازة من عملك اقطعها وارجع لدوامك وإن كنت تمارس بعض أنواع الأعمال اليومية التي اعتدتها عاود الرجوع إليها وتعملها ولا تستسلم لليأس وللجلوس وكأنك قد حكمت على نفسك بالانتهاء بل أشغل نفسك وأوطنها وأقنعها بأنك بخير وإلى خير وأن كل ما تشعر به هو فقط وساوس وأفكار وتخيلات لا وجود لها في واقعك ولا أساس لها من الصحة، متسلحاً في ذلك بالقرب من ربك سبحانه والمحافظة على الأوراد اليومية وأداء الصلاة في المسجد متوكلاً على خالقك ورازقك سبحانه..، وبعدها ستجد السعادة قد دبّت في جسدك وروحك وترجع إلى سابق عهدك كما عُرف عنك بأنك الشخص الذي لا تفارق الابتسامة محياه والانبساط والسرور مجلسه.