في تجربة "الرحابنة" في لبنان وارتباط هذه التجربة العظيمة بصوت فيروز، وتفرد هذه التجربة كظاهرة إبداعية فنية تقيدت الذائقة العربية ولازالت، نجد أننا أمام حالة خاصة، الكلمة هي السيدة بالموقف وهي التي قادت لهذا الإبداع وأعطت صوت فيروز الحالم آفاقا مختلفة ومتعددة، لم تكن هي السبب في شهرة الأخوين الرحباني ولكن وبتجرد هم من ساهموا بما وصلت إليه فيروز من مكانة فنية راقية، كون الصوت الجميل لا يكفي دون كلمات قريبة من الناس وممزوجة بجوانب إبداعية، تجعل الذي يعيش بأقصى الصحاري القاحلة، يتخيل عصفور الدوري وجسر اللوزية وعودة الثلج في لبنان! هي التقاطات امتزجت بالشعر المحكي البسيط وغير الغارق بالمحلية أو الشعبية، أبسط من ما يسمى باللهجة أو اللغة البيضاء التي نحاول أن نتداولها ونتخاطب بها بيننا كشعوب عربية، نسمات بيروت الساحرة، ورائحة القهوة والغربة والطفولة في شعر الرحابنة لم تكن مصفوفات شعرية لكلمات من أجل الغناء فقط، هي حالة مختلفة وتحتاج الكثير من التعمق والدراسات، التي تكشف عن سر هذا الإبداع الذي لا يعدو كونه "حكاية" تمت روايتها بموسيقى وصوت شجي. الغيرة من هذه التجربة تجعلني أتحسر وأتألم وتصيبني حالة اليأس منذ سنين طويلة، كون لدينا "ظاهرة" شعرية عظيمة جدا تتمثل بتجربة الأمير بدر بن عبدالمحسن -رحمه الله-، أنا هنا لا أكتب كتابة تقليدية عند رحيل المبدعين، من فترة زمنية طويلة تجاوزت الربع قرن وأنا أطالب بدراسة تجربة البدر التي إذا لم تتفوق بدون مبالغة على التجربة الرحبانية فهي لا تقل عن عظمتها وإبداعها. بدر بن عبدالمحسن حالة إبداعية مختلفة، وأنا محظوظ كوني عاصرت أجزاء مهمة من هذه التجربة الفريدة كصحفي، أقترب منه شخصيا وإبداعيا، وشخصيا هنا ليس أنا فقط، فالكل كانوا أصدقاء البدر لأنه كان زميل الكلمة والإبداع والفن، لم يكن البدر إلا حالة من الإبداع، حتى في كلامه شعر، وفي شخصيته لوحة فنية متخمة بألوان من الإنسانية وحالة الشجن والألم. بدر هو صوت "الرومانسية السعودية" هو الشعر المحكي، هو صاحب بدون مبالغة وأنا أقول هذا الكلام بعد رحيله، إنه صاحب أجمل تجربة شعرية إبداعية عربيا خلال الربع قرن الأخير، ولو كان لدينا وبكل أسف مثل الآلات الإعلامية القوية في مصر ولبنان، لتصدر المشهد دون منازع وهذه حقيقة دون مبالغة، كون تجربته فريدة وقيمتها الإبداعية كبيرة وعميقة. وجود تجربة الأمير بدر بن عبدالمحسن بالمناهج الدراسي مهم جدا، كون تجربته مع الشعر الوطني والغزلي تستحق الدراسة كحالة بلاغية إبداعية، يفاخر بها الأجيال، وتخلد في ذاكرتهم، كون الصحراء التي لا تماثل طبيعة لبنان فيها كم من الحب للوطن والأرض والعذوبة الشعرية تضاهي بعنفوانها أجمل البقاع، والتي استطاع البدر كحالة إبداعية متفردة جعلت السعودية الصعبة بتضاريسها والقوية برجالها والرومانسية بعبقها "فوق هام السحاب". هذه دعوة لمعالي وزير التعليم للمبادرة في حفظ قيم إبداعية فنية كانت ولازالت وستظل باقية، ولكن ستزداد توهجا بالتعامل معها دراسيا وأكاديميا كون وطننا وطن للإبداع، وبصورة مكثفة، وأيضا سمو وزير الثقافة كما عودنا نأمل منه دعم ترجمة أشعار البدر بلغات مختلفة ودعوة المتخصصين لدراسة تجربته وتعميمها كونها ليست حالة إبداعية سعودية فقط. رحم الله البدر ويكفيه هذا الحب الذي التف حوله بكل صدق برحيله، والجميل أن هذا الحب كان حتى وهو معنا، فلم يكن فقده مجرد فقد عادي، فقدنا وبدون مبالغة "رومانسيتنا".