إذا كانت البيوت تسيّج قضاياها بالكتمان، وتحتاط كثيراً في الستر والتغطية على كافة شؤونها، تأكيداً للمقولة الشائعة: (البيوت أسرار) وإذا كان الواقع كذلك في الغالب، فإن الروائية قماشة العليان تحطم هذه الأسوار والحوائط الأسرية من خلال روايتها (أنثى العنكبوت) التي نشرت في إحدى نسخها عام 2010م عن دار الكفاح للنشر، وحصلت الرواية أيضاً على جائزة المبدعات العربيات لعام 2000م، والرواية من خلال أحداثها وصراعها تتحدث عن ظروف أسرية تعيشها إحدى الأسر، مكوّنة من أب وزوجتين وعدد من البنات والبنين، وتمضي أحداثها من خلال صراعات مأساوية ترويها (أحلام) عن والدها وبقية أسرتها وتجربتها العملية والعاطفية التي كانت تمضي دائماً في الطريق الذي لا ترجوه، كما تكشف الرواية عن طبيعة العلاقات بين أفراد هذه الأسرة، وكيف تواجه هذه الأسرة مواقف الحياة المختلفة، ومن الطبيعي أن تختلف وجهات التلقي لهذا النص الروائي بين من يراه صورة بائسة لحياة أسرية لا تشبه الواقع، وتبالغ في تصوير القسوة والعنف الأسريّ، خصوصاً من الأب تجاه زوجته وبناته وأبنائه، وبين من يرى أن الرواية تحكي واقعاً موجوداً بكل تسلطه الذكوري وهيمنته التي تعتمد على الإقصاء وأحادية الرأي، إلا أنني سأقف عند الجانب اللغويّ في هذه الرواية، بحكم تميزه في نظري عن بقيّة العناصر الأخرى، من حيث الجودة والاتكاء على الرمزية اللغوية وانتقاء الصورة المؤثرة، والمفردة العميقة الحزينة، فقد جاءت لغة الرواية في الكثير من المشاهد والمواقف الإنسانية في النص بارعة في التأثير النفسي على المتلقي، واستخدمت الرمز اللغوي للإحالة إلى المماثل من الواقع فالأب على سبيل المثال رمز للقمع والاستبداد والزوجة رمز للاستسلام والانصياع واعتمدت الرواية على المنولوج الداخلي أو حديث النفس والذات في خدمة هذه المزية في أكثر من محطة من محطات الرواية، كما وظفت لغة البوح والشكوى من المعاناة والألم، فشخصية أحلام وهي الابنة التي تشكّل محور الحديث والصراع الأسري، في بيتٍ يصفه العنوان ببيت العنكبوت إذ الرمزية اللغوية الذهنية توحي بتهاوي هذا البيت وتداعيه ووهنه، تعطي صورةً أولية عن مآسي هذه الأسرة، فالقضية اجتماعية في مجملها وتضع المتلقي أمام هذه الظروف المعيشية التي تعيشها هذه الأسرة، لكنها من خلال لغةٍ أكثر تأثيراً وجذباً من ذلك مثلاً حين تصور لغة الرواية قسوة الأب في تعامله مع زوجته المريضة، أو في تزويج بناته إجباراً بمن لا يناسبهم إما سلوكاً، أو فارقاً عمرياً، وفي صناعة الحوار بين شخصيات الرواية تمّ توظيف لغة الشكوى والتأثير العاطفي الذي يظهر تعاقب المآسي على هذه الأسرة، واختفاء لغة الحلول والتشاور، فليست كل الأحلام التي تراودنا في متناول أيدينا، ولن تجري الرياح بمراكبنا في هذه الحياة كما نرجو دائماً، لكن الأهم كيف تكون المرونة حلاً، وكيف يكون الصبر مخرجاً، وذلك من إيحاءات اللغة السردية التي يشعر بها القارئ ولا يصرّح بها النص، وإذا كانت الحبكة الروائية لم تحمل المفاجأة المدهشة للمتلقي عموماً من خلال أحداثها باستثناء نهاية العلاقة بين أحلام وزوجها السبعيني الذي أرغمت من أبيها عليه، إلا أنّ لغتها المأساوية تفتح فضاء أسئلةٍ تبقى حاضرة في ذهن المتلقي تتعلق بالدرجة الأولى بشخصية البنت، أو الأنثى عموماً في أسرتها، ومدى التوازن بين حرية الرأي والتصرف من جهة ومدى الالتزام بقيود الأعراف والأسرة والمجتمع من جهةٍ أخرى، وثمّ أسئلة أخرى تتعلق بطبيعة علاقة الأب بأفراد أسرته، وكيف ينبغي أن تكون هذه العلاقة وما الحقوق التي له والتي عليه؟ وما موقفه الصحيح ما بين الحزم الذي يفضي إلى قسوة القلوب والانفضاض من حوله، وبين اللين الذي يمهل إلى درجة الإهمال والإنفلات المقابل؟ إن رواية أنثى العنكبوت صورة لأسرةٍ في المتخيل السردي لكنها تمتاح من الواقع ما لا ينكره أحد، وإن بالغت في الأسى والحزن، ولغتها وإن كانت تصف الأحداث بشعرية الألم إلا أنها ترسخ لأسئلة غير مباشرة في وعي المتلقي بحيث تبقى علامات الاستفهام معلقة أمام الأعين تبحث عن أسباب التفكك الأسري وعن مصائبه التي تتناوب على صرح الأسرة المشيد، فتقوضه من أسسه وتشتت أركانه، وبدلاً من أن تكون الأسرة ملاذاً آمناً لأفرادها ومحلاً للتشاور والاستفادة من تجارب الحياة، إذا بالأخطاء الفردية والأنانية والتعنّت تساهم بإلقاء الأسرة وأفرادها وربما محيطها القريب في أتون الضياع، ومتاهات الغواية والجريمة، والانقسامات البشعة، وهنا تبدو قيمة النص الروائي، ومدى قدرته على ملامسة الجراح، وقرع أجراس الخطر، وإثارة الأسئلة. أما الحلول فتصنعها القرارات اللاحقة، نتيجة لأثر النص وتأثيره على المتلقي وهذه وظيفة مهمة للأدب الهادف عموماً الذي يسعى نحو الحلول المنتظرة.